عن جمهورية “لبّت لبّت”

السورية للطيران تحت الإدارة الرئاسية المباشرة، خبر عابر؟ ربما. لكنه يكشف التحول الخطير الذي تعيشه سوريا اليوم: من دولة تتظاهر بالمؤسساتية إلى سلطة عارية من كل قناع. أحمد الشرع، المعروف بالجولاني، ليس حافظ الأسد. الأخير صعد عبر المؤسسة العسكرية، احتاج لانقلاب “تصحيحي”، لمؤتمرات حزبية، لدستور مُفصّل على مقاسه. حتى نهبه كان “قانونياً” عبر مراسيم وقرارات وعقود. الجولاني؟ زعيم ميليشيا وجد نفسه في القصر. لا يحتاج لطقوس الشرعية لأنه لم يعرفها أصلاً. هنا المفارقة: النظام الأكثر وحشية كان الأكثر حرصاً على المظاهر. والسلطة الأضعف هي الأكثر صراحة في عريها.

الأسد الأب بنى دولة أمنية بامتياز، لكنها دولة. كان فيها وزراء يعرفون وزاراتهم، موظفون يفهمون أعمالهم، مؤسسات، رغم فسادها، تؤدي حداً أدنى من الوظيفة. حتى القمع كان “مؤسساتياً”: أجهزة متخصصة، سجون معروفة، قوانين طوارئ مكتوبة. الفساد نفسه كان منظماً: لكل صفقة “ملفها”، لكل سرقة “مسوّغها القانوني”، لكل نهب “غطاؤه البيروقراطي”. الابن ورث هذه البنية وطوّرها، أضاف إليها لمسة “الحداثة”: خطاب الإصلاح والتطوير، لغة السوق والانفتاح، مظاهر التكنولوجيا والعصرنة. لكن الجوهر بقي: دولة مافياوية، نعم، لكنها دولة. تسرق، لكن عبر مؤسسات. تقمع، لكن وفق قوانين ومحاكم. تكذب، لكن بمنطق ولو كان غبياً.

الجولاني وجماعته يمثلون قطيعة مع هذا كله. ليسوا نتاج مؤسسة، ولم يصعدوا عبر هياكل الدولة، جاؤوا على أنقاضها. عقليتهم ليست عقلية الضابط الذي تحول إلى لص، وإنما عقلية قاطع الطريق الذي وجد نفسه حاكماً. لذلك، عندما يستولون على مؤسسة كالسورية للطيران، لا يفعلون ذلك عبر صفقة فساد “قانونية” كما كان يفعل رامي مخلوف، يستولون مباشرة. لماذا التعقيد عندما يمكن التبسيط؟ لماذا المسرحية عندما الجمهور لا يطالب حتى بالحد الأدنى من المنطق؟

وهذا المنطق “المباشر” في النهب ينعكس، بالضرورة، في منطق الحكم نفسه. لأن ما نشهده اليوم في سوريا ليس مجرد سلطة غير مؤهلة، وإنما تأسيس واعٍ لنمط جديد من الحكم: الغوغائية المُؤسَّسة كفلسفة سياسية. السلطة الجديدة لا تحكم بالقانون أو المؤسسات، على العكس تماماً، فهي تحكم بمنطق الحشد الغاضب. القرارات تُتخذ كما في أي مقهى شعبي: بالصراخ الأعلى، بالعاطفة الأقوى، بالشعار الأسهل. الوزير يتصرف كزعيم عصابة في حارة ريفية، والرئيس يخطب كأنه في سوق شعبي.

ولعلّ أوضح تجليات هذه الغوغائية حدث الأمس: إعلان رسمي عن تغيير الهوية البصرية لسوريا، لا عبر مؤسسة وطنية أو لجنة منتخبة، وإنما من خلال مهرجان شعبي وديكور مسرحي. القرار، بكل رمزيته وخطورته، لم يُعرض على برلمان ولا خضع لتصويت ولا رافقه أي نقاش عام. سلطة انتقالية، غير منتخبة ولا مخوّلة بتحديد مصير الأمة، قررت، ببساطة، أن ترسم وجه سوريا الجديد وفق أهواء لحظتها الدعائية. والأسوأ، أن التصميم ذاته مسروق. فضيحة على مستوى الشكل والمضمون معاً: لا شرعية، ولا ملكية فكرية، ولا احترام للحد الأدنى من المهنية. كأن السلطة تقول بصراحة: لا حاجة لنا بالهوية، سنستعير واحدة جاهزة من غوغل، ونطبعها على علم.

السلطة الجديدة لا تكتفي بأن تكون غوغائية، لكنها تسعى بمنهجية لجعل المجتمع بأكمله كذلك. تُغرق الفضاء العام بلغة بدائية، تحوّل كل نقاش إلى صراخ، كل حوار إلى شتائم، كل فكرة إلى شعار. من يحاول الكلام بمنطق يُتهم بالتعالي. من يطرح فكرة معقدة يُسخر منه باعتباره “مثقفاً منقطعاً عن الواقع”. من يُشير إلى تناقض يُوصم بالتآمر. الهدف المُعلن من هذه الاستراتيجية هو “التقرّب من الناس” و”التخلص من لغة النخب المتعالية”. لكن الهدف الحقيقي أعمق وأخطر: خلق مجتمع يحتقر العقل ويُقدس الجهل، يخاف من السؤال ويطمئن للشعار، يُفضل الوهم البسيط على الحقيقة المعقدة. إنها عملية منهجية لتسميم البئر الثقافي للمجتمع، بحيث يُصبح أي خطاب عقلاني “مشبوهاً” بطبيعته.

ولكي تكتمل هذه المنظومة التدميرية، لا بد من ترجمتها على مستوى التعيينات والهياكل الإدارية. حكومة بلا خبير واحد ليست صدفة، ووزراء لا يعرفون وزاراتهم ليسوا خطأ في التعيين. إنه تصميم واعٍ لما يمكن تسميته “دولة الأصفار المُصممة”. الجاهل لا يُحرج السلطة بمعرفته، والفاشل لا يُهددها بنجاحه، والأصفار لا يجتمعون أبداً ليصنعوا رقماً. النتيجة المطلوبة: دولة تدور في فراغ، وسلطة مطمئنة لأن لا أحد قادر على تحديها فكرياً أو إدارياً.

هذا النموذج يُعيد إنتاج منطق التنظيم السري الذي نشأت فيه هذه السلطة: الولاء فوق الكفاءة، والطاعة أهم من المعرفة، والانضباط العقدي أولى من الفهم التخصصي. فالخبير، بطبيعة خبرته، يطرح أسئلة، ويُشير إلى تعقيدات، ويُظهر حدود الممكن. بينما الجاهل المطيع لا يفعل سوى التصفيق للقرار مهما كان سخيفاً، وترديد الشعار مهما كان مُتناقضاً.

لكن الخطورة الحقيقية لدولة الأصفار لا تكمن في فشلها وحسب، وإنما في تحويل الفشل إلى معيار للنجاح. فحين تُصبح الخيبة قاعدة، يُصبح أي إنجاز بسيط “معجزة”، وأي حل مؤقت “انتصاراً”. هكذا تُدجّن توقعات المجتمع وتُقلّص آماله، ويُقنع الناس بأن المتاح هو المعقول، وأن المُنجز هو المُستحيل. إنها استراتيجية ذكية لإدارة الفشل: اجعل الناس يتوقعون لا شيء، ثم اعطهم أقل من لا شيء، ثم اطلب منهم الشكر لأنك لم تأخذ منهم ما يملكون.

غير أن تدجين التوقعات وحده لا يكفي، فلا بد من تدمير أدوات النقد والمحاسبة ذاتها. وهذا ما يجري بدقة. لا صوت يعلو فوق صوت الطبلة. ولا لون يعلو فوق لون الهوية الجديدة، حتى لو كانت مسروقة.

هذا التسميم المُتعمد للخطاب العام لا يُحقق للسلطة مجرد حماية من النقد، لكنه يُحولها إلى الخيار الوحيد المُتاح. فحين تنحدر لغة المجتمع إلى مستوى الشعارات والانفعالات، تُصبح السلطة الغوغائية هي “الطبيعية” والأكثر تناغماً مع هذا المستوى. وحين يُتعب المجتمع من محاولة فهم التعقيدات، يستسلم للبساطة المُضللة التي تُقدمها السلطة كبديل عن التفكير.

هنا يكمن الخطر في ما نشهده اليوم، ما نظن أنه مجرد انتقال من سلطة إلى أخرى، هو في الحقيقة تحول جذري في طبيعة علاقة السلطة بالمجتمع، ومن ثم في طبيعة المجتمع نفسه. من مجتمع مقموع لكنه يحتفظ بذاكرة المؤسسات وثقافة الإدارة والخبرة، إلى مجتمع مُحطم يُعيد تعريف معايير العقلانية والكفاءة والحضارة. ومن دولة استبدادية لكنها تُحافظ على مظاهر النظام والقانون، إلى سلطة فوضوية تُؤسس شرعيتها على هدم هذه المظاهر واحتقارها. هذا التحول، وإن بدا في لحظته الراهنة انتصاراً لـ”الأصالة” على “التغريب”، أو للـ”شعبية” على “النخبوية”، فإنه في حقيقته انتصار للبربرية على الحضارة، وللجهل على المعرفة، وللفوضى على النظام. وهو انتصار لا يُؤسس لنهضة، وإنما لانتكاسة حضارية قد تحتاج أجيالاً لإصلاحها. فالمؤسسات يمكن بناؤها في سنوات، لكن الثقافة السياسية والأخلاق العامة تحتاج عقوداً لترميمها حين تنهار.

وفي هذا السياق تكتسب الرموز الصغيرة دلالات كبيرة، والقرارات “التقنية” معانٍ حضارية. السورية للطيران تحت الإدارة الرئاسية المباشرة، إذاً، ليست مجرد قرار إداري، لكنها رمز لعصر جديد: عصر السلطة العارية من أي قناع حضاري، المُعتزة بجهلها، المُتباهية بفوضويتها، الساعية بوعي لتدمير أي إمكانية لنهوض حقيقي.

هذا ليس دفاعاً عن نظام الأسد – فجرائمه لا تُغتفر ولا تُنسى – لكنه صرخة إنذار أمام كارثة خطيرة: تدمير البُنى الحضارية ذاتها التي يمكن البناء عليها. الاستبداد المؤسساتي، مهما بلغت وحشيته، يترك أطلالاً يمكن ترميمها. أما الفوضى المُؤدلجة فتحرق الأرض خلفها. نحن لا نرثي سقوط الطاغية، ولكننا نحذر من صعود البربرية. إنه عصر ما بعد الدولة، عصر ما قبل الحضارة، عصر لا يُبقي شيئاً صالحاً للإنقاذ.

مقالات مشابهة