الذاكرة كطغيان رمزي: سوريا ومأساة التاريخ المُحتكَر

منذ نشأتها، كان التاريخ في سوريا أداةَ حكمٍ وليس مجالَ معرفة. نصٌّ يُدار من مكاتب الأمن كما تُدار الملفات السرية. لم يكن سرداً للأحداث، كان وسيلة لتوزيع الشرعية والعار. في كتب المدارس وأرشيف الصحف واحتفالات النصر، جرى تشكيل الوعي الجمعي كما تُصاغ النشرات الحزبية. هكذا صار التاريخ جهازاً من أجهزة الدولة. مهمّته ضبط المعنى، وتسييج المخيّلة، وإخضاع المستقبل للحنين المصنوع في القصر.

حين انهار تمثال الأسد، لم تنهَر اللغة التي أنجبته. هرب الأسد جسداً وبقي صداه. خرج السوريّ من السجن، حاملاً معه مفاتيح الأقفال ذاتها. أُزيل الشعار، وظلّ الإيقاع نفسه. منطق السيطرة الرمزية لم يُكسر، فقط انتقل من السلطة إلى المجتمع، من المخابرات إلى الوعي. كل جماعةٍ صارت وزارة داخلية مصغّرة، وكلّ ذاكرةٍ تحوّلت إلى فرع أمنيّ يحرس سرديّته الخاصة.

التاريخ في سوريا لا يُكتَب بحثاً عن الفهم، ولكن طمعاً بالملكية الحصرية. من يضع يده على الماضي يحدّد شكل الوطن، ومن يحدّد شكل الوطن يمتلك شرعية الكلام باسمه. هكذا تحوّلت الكتابة إلى نوعٍ من الحيازة، والذاكرة إلى سجلّ عقاريّ. الأسدية أدركت ذلك باكراً، فبنت نظامها على فكرة النصّ الواحد: الوطن وثيقة، والمواطن قارئٌ مكلّف بالتلاوة. وبعد سقوطها، ورث المجتمع المبدأ نفسه. انقسم النصّ بين جماعاتٍ كثيرة، وكلّ جماعةٍ نصّبت نفسها مؤرّخاً وحارساً، تتصرّف في الذاكرة كما تتصرّف في الأملاك المصادَرة.

في الفضاء العام اليوم تتجاور المقابر مع المتاحف، والأرشيف مع البازار. تتاجر الجماعات بالصور كما تتاجر الشركات بالشعارات التسويقية. الشهادة تُسوّق، والمأساة تُعلن، والحداد يُستثمر. الوجع صار مورداً وطنياً، ولا أحد يريد أن يشفى لأن الألم يمنح امتيازاً. اقتصادٌ جديد تشكّل، عملته الدموع، وسوقه مفتوح طوال الوقت. كلّ جهةٍ ترفع أسهمها الرمزية عبر عدد ضحاياها. الحداد لم يعد طقساً إنسانياً، أصبح خطاباً سياسياً فارغ المعنى.

في الظاهر هو صراع على الروايات، ولكن في العمق هو صراع على تعريف الإنسان الجدير بالتاريخ. أيّ حياةٍ تستحق التوثيق؟ وأيّ موتٍ يستحق التأبين؟ في دولة الأسد كان الجواب معروفاً. أما اليوم، فتعدّدت الإجابات بعد أن تكاثر القضاة. صار الإلغاء موهبة يُمارَس في النبرة وفي التعليق وفي طريقة التذكّر. كلّ طرفٍ يطرد الآخر من ذاكرته كي يشعر بصفاء ذاته. الطغيان الذي كان له رأس واحد تفرّع إلى رؤوسٍ كثيرة. الاستبداد انتشر في اللغة كما ينتشر الفيروس في الدم، بلا مركزٍ ولا حدود.

الزمن نفسه أصيب بالعطب. الثورة التي كان يُفترض أن تفتح المستقبل علّقَت البلاد بين ماضٍ لم يمت ومستقبلٍ لم يُولد. الحاضر ثقيل، يجرّ وراءه أنقاض قرنٍ من الخيبات. ما يُسمّى الزمن السياسي تحوّل إلى طقسٍ شعائريّ. كل حدثٍ جديد يُعاد تمثيله في لغة الأسلاف، فيتكرّر الماضي تحت أسماء مختلفة. كأنّ السوريين يعيشون في عيدٍ جنائزيّ دائم. لا يعيشون الزمن، لكنهم يطوفون حوله.

حين تنسحب السياسة من الفضاء العام، لا يترك الغياب فراغاً محايداً؛ بل يفتح الباب لعودة المقدّس في أكثر صوره دنيوية. فكلّ سلطة، حين تعجز عن تأسيس شرعيتها على العدالة، تستعيد طقوس الذبح بوصفها لغة الطهارة. الأسد الأب قدّم الوطن قرباناً لمفهومه عن النظام، فحوّل الخضوع إلى عبادة جماعية. وبعده، ورثت الثورة البنية نفسها: الحاجة إلى تضحية رمزية تُطهّر الذات من عار الهزيمة. كل جماعةٍ، حين تدخل التاريخ، تبدأ أولاً بمحو ماضيها القريب، كأنها لا تستطيع الولادة إلا على أنقاضٍ جديدة. هكذا يتخذ التاريخ في سوريا شكل طقسٍ دوريّ لتجديد الشرعية عبر العنف الرمزي. تُستخرج الجثث لتكرار الغفران العقيم، وتُغسَل الذاكرة من ذنوبها لتستعد لذنبٍ آخر. في هذا النمط الطقسي من إنتاج المعنى، لا تُكتب الوقائع بقدر ما تُطهّر، ولا تُستعاد المأساة إلا لتأكيد نقاء جديد فوق خرابٍ قديم.

كذلك الأمر حين تفقد الجماعة قدرتها على إنتاج المعنى، تستعيض عنه بإنتاج الرموز. تتحوّل الذاكرة من سجلٍّ للتجربة إلى مزارٍ للهوية. هناك، يصبح التذكّر فعلاً طقوسياً أكثر منه معرفة، ويتحوّل الألم من تجربة إلى لغة، ومن لغة إلى أداة فرز. السوريون اليوم يتقاسمون الألم كعملةٍ مشتركة، لكنهم لا يتقاسمون المعنى. وجعهم واحد، لكن تأويله متناحر. في غياب مشروعٍ أخلاقيّ يؤطر الذاكرة، تتحول المظلومية إلى اقتصاد رمزيّ جديد: كلّ ضحيةٍ تسعى إلى احتكار سرديتها، وكلّ خطابٍ عن الألم يُعاد إنتاجه كوسيلة سلطة. لم يعد الألم يفتح أفق الوعي، بل صار وسيلةً لإغلاقه. هكذا تدور السيطرة الرمزية في حلقةٍ مغلقة: تتبدّل الوجوه، لكن أخلاق الاستبداد تبقى هي الآلة التي تنظّم توزيع الحزن وتحتكر معناه.

في لحظة ما بعد الانهيار، أصيب الخطاب النقدي بالعدوى ذاتها التي كان يُفترض أن يفككها. انزاح من التحليل إلى التحكيم، ومن الفهم إلى الإدانة. صار المثقف قاضياً روحياً، يتحدث بسلطة الضمير لا بسلطة المعرفة، وصار السياسيّ خطيباً يتلو المواعظ في سوقٍ أخلاقيّ مفتوح. تُقاس القيمة اليوم بجرعة الإدانة لا بعمق الفهم، وبنقاء النبرة لا بدقّة التحليل. لم تعد اللغة أداة لتفكيك الواقع، بل أداة لتطهير الذات من “شبهة التواطؤ”. كل كلمةٍ تُقال كأنها صكّ براءة من ماضٍ ملوّث، وكل فكرةٍ تُبنى على شرط التبرّؤ قبل التفكير. في هذا المناخ، تتحول السياسة إلى شعائر أخلاقية بلا مشروع، وتتحول العدالة إلى عقيدة خلاصٍ تنتظر اعترافاً جماعياً لا مساءلة فردية. وهكذا، تنقلب الذاكرة إلى لاهوتٍ جديد بلا إله: تُوزّع الخلاص واللعنة بمعايير الطهارة والنجاسة، وتستبدل بالمساءلة طقس الاعتراف، وبالبحث عن الحقيقة طقوس التوبة المتبادلة.

ما يُخيف في المشهد السوري اليوم ليس كثرة الروايات، وإنما غياب البنية الأخلاقية القادرة على احتواء هذا التعدد دون أن تحوّله إلى خصومة وجودية. المجتمع الذي يخشى الاختلاف يهرب إلى التوحيد القسري، والمجتمع الذي لا يحتمل الشك يلجأ إلى الكذب بوصفه ضمانةً للاستقرار. وهكذا يُعاد إنتاج منطق الطغيان من دون طاغية، وتستمرّ المراقبة من دون شرطتها، ويُمارَس القمع كواجبٍ أخلاقيّ باسم “الكرامة الجماعية”. العار، لا القانون، صار الأداة الأكثر فاعلية في تنظيم السلوك، والضمير الجماعي تحوّل إلى شرطيّ رمزيّ يوزّع صكوك الطهارة والخيانة. إننا نعيش في نظامٍ أخلاقيّ مغلق، يراقب النوايا قبل الأفعال، ويقيس الانتماء بمدى التوافق مع سردية الألم السائدة. وحين تصبح الأخلاق أداة ضبط، يتحول المجتمع إلى سجنٍ يتكلّم لغة الضحايا ويمارس منطق الجلاد.

الذاكرة في سوريا لم تعد سجلاً للماضي، أصبحت ملكية جماعية تُدار كعقارٍ رمزيّ ذي حدود وأسوار وحُرّاس. تُقسَّم بين الطوائف والجهات والفصائل كما تُقسَّم الأملاك بين الورثة، وتُسجَّل الحقوق فيها على أساس الألم لا على أساس الحقيقة. من يملك الأرشيف يملك الكلام، ومن يحتكر الحداد يملك الشرعية الأخلاقية لتمثيل الأمة. بهذا المعنى، لا تكفي إعادة كتابة التاريخ، ينبغي إعادة تأميم الذاكرة نفسها، تحريرها من اقتصاد الامتياز الرمزيّ الذي حوّل الضحايا إلى ملكية خاصة تُستثمر في السوق الأخلاقي.

الماضي ليس إرثاً يُورَّث، إنه مسؤولية تُقتسَم. لا أحد يملك حق الكلام باسم موتى الآخرين، لأن كلّ تمثيلٍ للغائبين هو شكل من أشكال الهيمنة عليهم. المجتمع الذي لا يحرّر ذاكرته من منطق الملكية سيبقى أسير الأساليب ذاتها التي حكمته: احتكار المعنى، وتوريث الألم، وإنتاج شرعيةٍ تقوم على المظلومية لا على العدالة.

سوريا الخارجة من الحرب لا تحتاج إلى مؤرخين فقط، وإنما إلى أخلاقيين ومصلحين يفهمون أن الذاكرة لا تشفي أحداً إذا بقيت مغلقة على طقوسها. تحتاج إلى قلوبٍ تُجيد الإصغاء المتبادل أكثر مما تجيد النطق، إلى شجاعة الاعتراف التي تعيد المعنى إلى الكلمة، لا إلى ندمٍ يطلب الصفح. الاعتراف هنا ليس ضعفاً، هو تأسيسٌ جديد للمدنيّة، فعلٌ يعيد للزمن اتصاله وللتاريخ وظيفته الأولى: أن يكون مجالاً للفهم، لا ساحةً للمزايدة أو المتاجرة. من يرى جرح الآخر كما يرى جرحه، لا كمرآةٍ له بل كامتدادٍ لمعناه الإنساني، يفتح باب التاريخ لا ليغلقه، بل ليبدأ منه من جديد.

اليوم تُقسم البلاد إلى قبائل ذاكرة، كلّ قبيلةٍ تكتب أسطورتها وتحرسها. الأحياء يعيشون على صدى موتاهم، والمستقبل يتيه بين شواهد القبور. الأمم لا تبنى بهذا الشكل، الأمم تُقام حين يجرؤ الناس على الخروج من ظلّ أسلافهم. حين تتحوّل العلاقة بين الأحياء والموتى من تبجيلٍ طقسيّ إلى حوارٍ معرفيّ. التاريخ لا يُصحَّح بالأسماء، وإنما بالمسافة التي نضعها بين الذكرى والتقديس.

في النهاية، القضية ليست من يمتلك الرواية الأصدق، لكن من يجرؤ على إيقاف الطقس المستمرّ منذ نصف قرن: طقس إعادة دفنٍ لا ينتهي. الخلاص لا يأتي من محو الأسدية بقدر ما يأتي من تفكيك طريقتها في إنتاج المعنى، تلك الآلية التي جعلت من كلّ ذكرى سلطةٍ محتملة. من دون تفكيك هذا المنطق، ستولد أسديةٌ جديدة كلّ عقد، بأعلام مختلفة وأعداء مختلفين.

الحرية التي وُعِد بها السوريون لا تعني إسقاط الطاغية فقط، بل تحرير اللغة من ظله. فالكلمات، قبل السجون، كانت أول المعتقلين. تبدأ الحرية حين نكفّ عن كتابة التاريخ كبيان اتهامٍ ونبدأ بكتابته كفعل فهمٍ ومسؤولية. حين نستعيد القدرة على الكلام من دون أن نحرس ذاكرتنا كملكية، وحين يصبح السؤال عن الماضي محاولةً للشفاء لا لتجديد الجرح. عندها فقط يغدو التاريخ فعلاً أخلاقياً، يربط المعنى بالحياة لا بالموت.

ما نحتاجه اليوم ليس النسيان، نحتاج نوعاً آخر من التذكّر: تذكّرٌ لا يُحَوِّل الألم إلى امتياز، ولا الحزن إلى وسيلة سلطة. أن نحمل ذاكرتنا كأمانةٍ مشتركة، لا كدرعٍ هوياتيّ أو سلاحٍ رمزيّ. أن نحزن من غير أن نستثمر الحزن، وأن نغفر لا بدافع الصفح بل لاستعادة إمكانية العيش المشترك. فالأوطان لا تُبنى بمن يحصي موتاه أكثر، لكن بمن يتعلم كيف يردّ للحياة معناها بعد أن جرّبت الفناء. الغفران، في معناه الأعمق، ليس نسياناً لما حدث، هو امتناعٌ عن إعادة إنتاجه. ومن هنا، تبدأ الحرية التي تستحق هذا الاسم.

مقالات مشابهة