في السياسة، لا تُلتقط الصور عبثاً، فهي تُفصح ما تُخفيه البيانات. صورة أحمد الشرع صاعداً درج الكرملين لا تُشير إلى عودة سوريا إلى الدبلوماسية، وإنما إلى استمرارها في الارتهان. فمنذ عقود، كلما تصدّعت بنية الدولة السورية، هرعت السلطة ـ أياً كان اسمها ـ إلى الخارج تبحث فيه عن تعريفٍ لوجودها. مرّة تستعير شرعيتها من أنقرة، ومرّة من طهران، ومرّة من موسكو. كأن دمشق فقدت قدرتها على إنتاج ذاتها، وأنها لا تكون “دولة” إلا حين تُعرَّف بلسان غيرها.
لهذا الزيارة إلى موسكو لم تكن استئنافاً لعلاقات سياسية، كانت تجديداً لعقد الوصاية. منذ أن قال الشرع إنه سيحترم الاتفاقات السابقة، سلّم ضمناً بأن موقعه ليس بموقع الشريك بل التابع. فالسياسة في سوريا لم تكن يوماً علاقة بين دول، بل ترتيباً بين أولياء الأمر. والشرع، الذي ورث دولة مثقوبة من الداخل، ذهب يمدّها بدم خارجي كي تبقى حيّة على الورق.
موسكو لم تحتج إلى تبرير قصفها ولا للاعتذار عن حلب ودوما وداريا، لأنها ببساطة لم تُسأل. الشرع لم يذهب ليحاسبها، ذهب ليطلب نسخةً أكثر أناقة من الوصاية القديمة. ذهب يبحث عن ضمانات ضد بقايا النظام السابق، دون أن يدرك أن تلك البقايا تسكنه هو نفسه: في لغته، في خوفه من المجتمع، في تصوّره الأبوي للدولة.
الهروب من وجه الداخل صار عقيدة الحكم في سوريا الجديدة. كل ما يمتّ بصلة إلى الجغرافيا الفعلية – الساحل، السويداء، الجزيرة، حتى سوريا المفيدة نفسها – يُعامَل كمصدر تهديد لا كمجال سياسة. فالساحل، بما يحمله من ذاكرة القتل باسم الدولة، والجزيرة بما تمثله من نزعة استقلالية، والسويداء بما تجسده من تمرّدٍ مدنيٍّ نادر، كلّها مرايا يرى فيها الحكم صورته الحقيقية فيرتعب. لذلك يهرب إلى الخارج، إلى صالات الكرملين وممرّات أنقرة والدوحة وتل أبيب، يفاوض هناك كي لا يفاوض هنا. الخارج يمنحه اللغة التي افتقدها: لغة المصالح والضمانات، لا لغة المساءلة والمصالحة.
هذا الهروب ليس طارئاً، إنه استمرار لبنية قديمة جعلت من السياسة وظيفة استيراد دائمة: استيراد للشرعية، وللحماية، وللرؤية ذاتها. وفي لحظةٍ كان يفترض أن يُفتح فيها الباب لحوار وطني حقيقي، أُغلق على السوريين من جديد. الشرع لا يريد أن يرى وجه الساحل الملطّخ بدماء جنوده، ولا وجه السويداء المرفوع بكرامة نسائها، ولا وجه الجزيرة الذي يذكّره بأن سوريا لم تعد مركزاً واحداً، بل خرائط تتنفّس خارج ظله.
لكن هذا الارتهان لا يقتصر على قصر الحكم. فقد تسرّب، بهدوءٍ ودون إعلان، إلى وعي الناس أنفسهم. بعد نصف قرنٍ من التربية على الخوف، صار السوريّ يرى الدولة كقدرٍ لا كمؤسسة، والقوة كضمانةٍ لا كتهديد. تحوّل الاستبداد من جهاز إلى ثقافةٍ مجهرية تعيش في لغة الناس اليومية: في طاعة الأضعف للأقوى، في عادة الاستئذان قبل الفكرة، في الخوف من الجار المختلف أكثر من الخوف من الحاكم.
ومع كل دورة قهر، تقلّصت مساحة المجتمع الأهلي التي كانت تحمي الأفراد من الدولة. صار الولاء بديلاً عن الثقة، والمحاباة عن العدالة، والانتظار عن الفعل. بهذا المعنى، لم تخلق السلطة تبعيتها وحدها، بل أعادت تشكيل المجتمع على صورتها: هرمياً، متردّداً، خائفاً من المبادرة. هذا هو وجهها الآخر، الوجه الذي يجعل الوصاية ممكنة لا فقط بالقوة، ولكن بالقبول بها كنوعٍ من النجاة.
وحين يتحدث الشرع عن “إعادة بناء الجيش السوري”، فالمقصود ليس الدفاع عن البلاد، يريد إعادة بناء أداة الضبط القديمة، وإن كان بثوب جديد. جيشٌ بإدارة روسية مرة أخرى، مهمته حماية السلطة من الداخل. تماماً كما فعل الأسد حين بنى جيشاً يحارب السوريين لا أعداءهم.
المأزق ليس في موسكو، فهي تتصرف كقوة كبرى تعرف كيف تدير الخراب. المأزق في دمشق التي ما زالت تفكر بعقل الريع السياسي: تمنح الولاء مقابل الحماية، وتبيع السيادة مقابل الاعتراف. الزيارة لم تكن لحظة سياسية بقدر ما كانت لحظة نفسية: اعتراف ضمني بأن السلطة الجديدة لا ترى في السوريين مصدر شرعيتها، بل في الخارج. وفي الخارج، لا أحد يعطي دون مقابل.
الزيارة تعيد تمثيل الانقسام الأصلي الذي مزّق البلاد: السلطة مقابل المجتمع، الخارج مقابل الداخل، الحماية مقابل الحرية. والمفارقة أن الشرع، وهو يتحدث عن “إعادة بناء الدولة”، يكرّس الفكرة التي دمّرت الدولة نفسها: أن الدولة تُدار من فوق، لا تُبنى من الناس.
موسكو، بدورها، تعرف كيف تستثمر في هذا النمط من الزعامات. تمنحهم الوهم بأنهم رجال دولة، وتستخدمهم مفاتيح في لعبة النفوذ. من الأسد الأب إلى الابن، والآن إلى الشرع، السلسلة ذاتها تتكرر: رجلٌ يذهب إلى الكرملين بحثاً عن ضمانة، ويعود بعبارة مجاملة تضاف إلى سجل التبعية الطويل.
درج الكرملين ليس سلماً رخاميّاً فحسب، إنه مجاز كامل للسياسة السورية: كلّما خُيّل لها أنها تصعد نحو العالم، كانت في الواقع تهبط أعمق في عزلتها. ما يبدو انفتاحاً ليس سوى استعادة للغريزة القديمة: طلب الحماية من الخارج بدل الثقة بالداخل. الشرع في موسكو لم يكن يتفاوض مع بوتين بل مع نفسه، يحاول أن يقنع ذاته أنه يختلف عن سلفه فيما يكرر لغته. “العلاقات التاريخية”، “احترام الاتفاقيات”، “الاستقرار” المفردات ذاتها التي تُقال حين تغيب السياسة، وحين تفقد السلطة جمهورها ولا تجد بعدُ شجاعتها للاعتراف.
ولأن السياسة في سوريا كانت دوماً تعويضاً عن غيابها، فإن درج الكرملين، رغم طوله ورشاقة الشرع في صعوده، يغدو الصورة الأمثل لدولةٍ تصعد شكلاً لتسقط مضموناً: يصعد الشرع ليصافح من دمّر بلاده، وينزل السوريون مرّة أخرى إلى ما تحت العدم.