الحماية السادية: في تشريح اقتصاد الموت السوري

كيف يصل مجتمع حمل في ذاكرته الجمعية إرثاً من مقارعة الاستعمار إلى لحظة رفع علم المحتل في ساحته العامة؟ السؤال يوجع. يوجع لأنه يكشف تحولاً في البنية العميقة للوعي، تحولاً يتجاوز التصنيفات الأخلاقية السهلة – خيانة أو جهل – ليضعنا أمام حقيقة أكثر قسوة: نحن أمام انهيار العقد الاجتماعي ذاته وتحوّله إلى ما يشبه السوق، سوق تُتداول فيه الحمايات كسلع والولاءات كخدمات والهويات كعملات رائجة أو كاسدة حسب الظرف.

هذا الحدث لم يكن استثناءً، إنه عرضٌ لأزمة أخطر بكثير. علينا أن نعود إلى تعريف الدولة نفسها، وموقعها من مواطنيها. الدولة في سياقنا السوري لم تعد تحكم بالمعنى الذي عرفته الفلسفة السياسية منذ أرسطو – إدارة الشأن العام لصالح المحكومين – بل تحولت إلى آلة نهب ممنهجة، جهاز استخلاص للثروة والكرامة معاً. والمجتمع، في مواجهة هذا الافتراس المنظّم، بدأ رحلة بحث محمومة عن حمايات بديلة، أي حماية، من أي مصدر. هكذا ولد ما أسمّيته سابقاً “اقتصاد الحماية” الأمنية، نظام تبادلي معقد حيث الأمن بضاعة والخوف عملة والبقاء هو الربح الوحيد المنشود. في هذا الاقتصاد،  تصبح السويداء مختبراً حياً لما يحدث حين يتحول المركز إلى استعمار داخلي، ذلك المفهوم الذي طوّره مفكرو ما بعد الكولونيالية لوصف كيف تُعامل الدولة الحديثة أطرافها كمستعمرات داخلية تُستنزف وتُهمّش وتُضبط بالقوة الغاشمة.

ما فعلته السلطة الانتقالية في السويداء ليس رد فعل، إنه ممارسة ممنهجة لطريقة تعامل المركز مع الأطراف منذ عقود. المركز الدمشقي يفاوض على الجغرافيا كما يفاوض تاجر على بضاعته، يستبدل الرموز كما يستبدل النقود المزيفة، يحاصر المدن كما حاصر الرومان قرطاج. والهامش السوري، مدفوعاً إلى حافة اليأس المطلق، يجد نفسه مضطراً لإعادة النظر في كل مسلّماته: من هو العدو حقاً؟ من يمكن أن يكون صديقاً ولو مؤقتاً؟ ما هو الممكن في عالم صار فيه المستحيل واقعاً يومياً؟ لذلك اللحظة التي رُفع فيها العلم الإسرائيلي لم تكن مجرد حدث سياسي لحظي أو إنفعال عاطفي، كانت لحظة كاشفة بالمعنى الهايدغري، لحظة ينكشف فيها الوجود على حقيقته العارية. العلم هنا يعمل كدالّ فارغ – مفهوم طوّره لاكان ثم لاكلاو – دالّ يمكن ملؤه بأي مدلول حسب السياق والحاجة. العلم الذي كان لعقود رمزاً للعدو المطلق، للشر المحض، للآخر الذي لا يمكن التصالح معه، تحوّل في لحظة يأس جماعي إلى رمز لحماية محتملة، لأمل ولو كان وهمياً، لمخرج من جحيم لا يُطاق.

لكن لا يمكن قراءة هذه اللحظة السوداء من دون فحص الوجه الآخر للصمت المريب، والتدخل المحسوب: إسرائيل من جهتها لعبت الدور الذي أتقنته الإمبراطوريات الاستعمارية عبر التاريخ، لكن بصيغة أكثر تعقيداً وخبثاً. في البداية، صمتت صمتاً محسوباً. تركت جحافل القتل – تلك القطعان البشرية التي لا تختلف عن جحافل التتر في وحشيتها – تصل إلى السويداء وترتكب الدورة الأولى من المذابح. طائراتها التي تخترق السماء السورية يومياً، التي ترصد حركة نملة على الأرض، تعامت فجأة عن قوافل الموت المتحركة. ثم، في لحظة محسوبة بدقة، قصفت بعض الآليات الثقيلة بحجة أنها “كسرت قواعد الاشتباك”  أي قواعد؟ قواعد اللعبة الإسرائيلية التي تريد عنفاً منضبطاً، جنوباً خال من الأسلحة الثقيلة، مجازر بالتقسيط، موتاً على نار هادئة لا يستفز الرأي العام الدولي أكثر من اللازم.

لكن هذا القصف المحدود لم يكن لحماية أحد كان إدارة للمذبحة. سمحت بعده لموجة ثانية أكثر وحشية بالوصول، موجة عرفت أن الحدود مرسومة: اقتلوا كما تشاؤون لكن لا تستخدموا أسلحة ثقيلة تُحرج الراعي الإسرائيلي. واليوم، فيما السويداء تختنق تحت الحصار، تتحضر عشائر الهمجية لدورة ثالثة من الذبح الممنهج، وإسرائيل تراقب، تحسب، تدير المشهد كمخرج يضبط إيقاع المأساة.

غير أن سردية “التدخل الإنساني” تنهار أمام التجربة اليومية للضحايا في الجولان وفلسطين. أي حماية هذه التي نتحدث عنها؟ في الجولان المحتل، حيث يُفترض أن إسرائيل “تحمي” أبناء عمومة ضحايا السويداء، يُعامل الدروز كبشر من الدرجة الرابعة، ليسوا مواطنين كاليهود، ولا مواطنين منقوصين كالفلسطينيين في الداخل، ولا حتى أعداء واضحين يُحترم عداؤهم، هم كائنات معلّقة في العدم القانوني. أهل الجولان الذين يقارعون الاحتلال منذ أكثر من نصف قرن، الذين رفضوا الجنسية الإسرائيلية ودفعوا ثمن رفضهم سجناً وتنكيلاً وحرماناً، يعرفون حقيقة “الحماية” الإسرائيلية: إنها احتلال بوجه إنساني بشع، استعمار يتقنّع بالرحمة المريضة.

أما دروز فلسطين، مواطنو الدرجة الثالثة في الدولة التي تدّعي أنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، فحكايتهم أبلغ. يُجنّدون قسراً في جيش يقتل إخوتهم الفلسطينيين، يُستخدمون كدرع بشري أخلاقي لتبرير الاحتلال، ثم يُرمون في هامش الهامش، لا هم عرب مقبولون ولا يهود مرغوبون. إسرائيل التي صنعت نظام فصل عنصري متطوراً داخل حدودها، التي تُصنّف البشر حسب الدم والدين والأصل، تريدنا أن نصدّق أنها ستحمي السويداء؟ الدولة التي تمارس الإبادة الممنهجة في غزة، التي تحوّل الضفة إلى معازل، التي تهدم البيوت وتقتلع الأشجار وتسرق الأرض، هذه الدولة ستكون حامية للدروز السوريين؟

إسرائيل تدير المذبحة لكنها لا تمنعها. تريد سوريا ضعيفة ممزقة متناحرة، لكن ليس إلى درجة الفوضى الكاملة التي قد تُنتج قوى لا يمكن التحكم بها. تريد عنفاً كافياً لإبقاء الجرح مفتوحاً، لكن ليس عنفاً يستدعي تدخلاً دولياً قد يُغيّر قواعد اللعبة. إنها تمارس ما أسمّيه “الحماية السادية”: تترك الضحية تُعذّب ثم تتدخل في اللحظة الأخيرة لا لإنقاذها وإنما لإطالة عذابها، لجعلها تعتقد أن الجلاد هو المنقذ، أن القاتل هو الحامي.

الخطر الحقيقي ليس في الوهم اللحظي، فالغريق يتعلّق بقشة والأوهام جزء من آليات البقاء البشري في الظروف القصوى، الخطر في تحوّل هذا الوهم إلى استراتيجية دائمة، إلى نمط تفكير، إلى ما يشبه الإدمان على الذل. عندما يبدأ المعذّب بالبحث عن رحمة في عيون جلاّده، عندما يُصدّق أن القاتل قد يتحوّل حامياً، يكون قد خسر معركته الأساسية: معركة الحفاظ على الحد الأدنى من الكرامة والوضوح الأخلاقي.

عندما يُشرعن مجتمع ما لنفسه طلب الحماية الخارجية كحل نهائي، يدخل في دوامة التبعية المُزمنة. الجسد قد يُنقذ مؤقتاً، لكن الروح، تلك القدرة على التفكير المستقل والفعل الذاتي، تموت موتاً بطيئاً. المجتمع يفقد تدريجياً قدرته على تخيّل حلول من داخله، على بناء تضامنات أفقية، على مواجهة الطغيان بأدواته الخاصة. رفع العلم، في قراءة أدق، ليس فعلاً سياسياً بالمعنى الكلاسيكي، كان مشهداً من “مجتمع الفرجة” الذي نظّر له غي ديبور. الواقع يتحول إلى تمثيل، والألم إلى استعراض، والسياسة إلى صور وفيديوهات تُتداول في الفضاء الافتراضي. العلم يُرفع للكاميرات أكثر مما يُرفع للسماء، يُنتج نشوة عابرة في عالم التواصل الاجتماعي، لكنه لا يغيّر شيئاً في موازين القوى على الأرض. لكن ربما يمنح السلطة ذريعة إضافية للبطش، والعالم صورة مشوّهة عن طبيعة الصراع.

والأخطر من كل ذلك أن هذا المشهد الاستعراضي يؤدي وظيفة أخرى أكثر خبثاً: التشويش على الجريمة الحقيقية. بينما ينشغل العالم بتحليل “فضيحة” رفع العلم، تستمر الإبادة الممنهجة بصمت. أكثر من عشرين قرية في ريف السويداء محتلة فعلياً، أهلها لا يستطيعون الوصول إليها، محاصرون في مخيمات النزوح أو في أحياء المدينة المكتظة. الحصار الخانق يحوّل المحافظة كلها إلى سجن مفتوح، والموت البطيء يحصد الأرواح بعيداً عن الكاميرات. لكن كل هذا يغيب في ضجيج “الفضيحة” المُصنّعة. العلم المرفوع يحجب آلاف الأعلام المطوية فوق القبور الجديدة. الصورة الواحدة تمحو آلاف الصور التي لن تُلتقط أبداً. هكذا تعمل آلة التشويش: تُحوّل لحظة يأس إلى جريمة، وتُحوّل الجريمة الحقيقية إلى صمت.

لكن لفهم كيف وصلنا إلى هذا الانهيار في إدراك الذات، علينا التوقّف عند ما فُعل بذاكرتنا الجماعية. الذاكرة هنا عنصر حاسم. السويداء والجنوب السوري عموماً عاشوا عقوداً من التهميش الممنهج، ليس إهمالاً عفوياً بقدر ما هو سياسة مدروسة. خُصخصت إدارة شؤونهم لصالح أمراء حرب صغار، سُلبت رموزهم التاريخية، عوملوا كأوراق في لعبة جيوسياسية لا يفهمون قواعدها. عندما تُكسر الذاكرة الجمعية بهذا الشكل الممنهج، عندما يُفرّغ التاريخ من معناه التحرري ويُحوّل إلى سردية رسمية جوفاء، يتآكل الإحساس بالمشترك الوطني ويتقدّم منطق النجاة الفردية أو الفئوية. في هذه الفجوات بالذات، في هذا الفراغ المعنوي والسياسي، تتسلل القوى الخارجية، تجنّد، تشتري، تعد بما لا تملك، تقدّم نفسها كبديل عن دولة لم تعد موجودة إلا كجهاز قمع.

ومع ذلك، فإن إدراك المأساة لا يكفي. الصدمة لا يمكن أن تكون مشروعاً سياسياً. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: ما العمل؟ لكن – وهنا المفصل الحرج – الاعتراف بعمق الأزمة وتعقيدها لا يعني الاستسلام لمنطقها. السؤال الملحّ والملحّ جداً: ما العمل؟ ليس السؤال اللينيني بصيغته الثورية الكلاسيكية، بل سؤال أكثر تواضعاً وأكثر جذرية في آن: كيف نوقف الانحدار؟ كيف نستعيد الحد الأدنى من السيادة على مصائرنا؟ أولاً، وهذا أساسي، إدراك أن التقسيم ليس قدراً محتوماً كما يريد البعض أن يصوّره. ما هو ممكن وضروري اليوم ليس أوهام الانفصال أو الكانتونات الطائفية، تلك الأحلام المسمومة التي تُغذيها قوى خارجية لأجنداتها الخاصة، بل لامركزية حقيقية، عميقة، جذرية، تُعيد للمجتمعات المحلية حقها الطبيعي في إدارة شؤونها اليومية. هذا ليس مطلباً إدارياً تقنياً، إنه مطلب سياسي بامتياز: كسر احتكار المركز للقرار والثروة والعنف الشرعي وغير الشرعي.

ثانياً، وهذا لا يقل أهمية، بناء معيار أخلاقي وسياسي واضح وصارم. معيار يرفض قطعياً تحويل الإنسان السوري إلى سلعة في سوق الحمايات الإقليمية والدولية. معيار يُساوي بين دم المسلم والمسيحي والدرزي والعلوي، لا كشعار أجوف كشعارات البعث والإسلام السياسي وإنما كممارسة يومية حقيقية. معيار يرفض المقايضة على المبادئ مهما اشتدت الضغوط ومهما بدت المغريات. هذا المعيار ليس ترفاً أخلاقياً للمثقفين، إنه ضرورة وجودية، بدونه يتحول المجتمع إلى قطيع يُساق من قاهر إلى قاهر، من وهم إلى وهم، حتى يفقد قدرته على التمييز بين الحرية والعبودية. ثالثاً، مواجهة حازمة وشاملة لاقتصاد الحرب الذي ورثناه. العصابات التي تسيطر على تجارة الكبتاغون والسلاح والبشر ليست مجرد “انحراف” عن مسار الثورة أو بقايا من النظام القديم، هي جزء عضوي من نظام حكم جديد يتشكّل، نظام يمزج بين أسوأ ما في الاستبداد التقليدي وأسوأ ما في الرأسمالية المتوحشة. تفكيك هذه الشبكات ليس مسألة أمنية فحسب، هو شرط لأي مشروع سياسي جدّي يريد بناء دولة لا إقطاعيات متناحرة.

رابعاً، وهذا درس السويداء الأخير، احترام الرموز ليس مسألة فولكلورية أو عاطفية. حكمت الهجري لم يكن مجرد اسم في سجل النفوس، هو تجسيد حي لذاكرة جمعية، لتوازن اجتماعي دقيق، لحكمة تراكمت عبر الأجيال. محاولة استبداله بدمى متحركة، بوجوه بلا تاريخ ولا شرعية، ليست إهانة رمزية عابرة وإنما ضربة في الصميم لإمكانية بناء أي عقد اجتماعي جديد. الرموز، كما علّمنا كاسيرر وليفي ستروس، هي اللغة التي تتحدث بها المجتمعات مع ذاتها، والعبث بها هو عبث بقدرة المجتمع على الكلام.

لكن، وفي قلب هذا الاحترام، يجب ألا ننسى أن الأهم من الرموز هو تحييدها عن ساحات الصراع السياسي. فحين تُختزل الطوائف في رجال دين، وتُختصر المجتمعات المحلية في لحى وعمائم، نكون قد عدنا إلى سردية القرون الوسطى بثياب الجمهورية. من هنا، فإن احترام الرموز لا يعني تأليهها، بل تحريرها من عبء التمثيل السياسي الإجباري. على الدولة، إن أرادت أن تبني مشروعاً وطنياً حديثاً، أن تنظر إلى المحافظات لا كمربعات طائفية، لكن كوحدات اجتماعية مدنية كاملة، فيها المواطن قبل الطائفة، والإنسان قبل الرمز.

العمل السياسي الجاد لا يبدأ بطرق أبواب المشايخ ولا باسترضاء البطاركة، يبدأ بفتح الأبواب أمام قوى المجتمع الحية، المدنية، المؤمنة بأن التمثيل لا يُمنَح بالوراثة، لكنه يُكتسَب بالممارسة.

ولهذا، فإن إعادة تعريف الممكن لا تبدأ من الأمن أو الحماية، بل من استعادة السياسة بوصفها فعلاً أخلاقياً وتنظيمياً. السياسة، في تعريفها الأدق، ليست فن الممكن فحسب، ذلك التعريف البراغماتي الفقير، السياسية هي فن تحديد المعايير التي تُنظّم هذا الممكن وتمنحه معنى. في السياق السوري اليوم، هذا يعني أشياء محددة وملموسة: إغلاق سوق الحمايات بكل أشكاله، فتح نقاش وطني حقيقي حول شكل الدولة المستقبلية بعيداً عن وصاية هذا الطرف الخارجي أو ذاك، تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية دون مواربة أو تجميل. الاحتلال احتلال، سواء جاء من دمشق أو من أنقرة أو من واشنطن أو من تل أبيب. الاستبداد استبداد، سواء تقنّع بالعلمانية أو تلفّع بالدين. الجريمة جريمة، سواء ارتُكبت باسم الثورة أو الاستقرار أو المقاومة أو أي شعار آخر.

السؤال الذي بدأنا به  كيف يرفع مجتمع مناضل علم محتلّه؟  يجد إجابته ليس في الإدانة الأخلاقية السهلة، وإنما في تحليل البُنى العميقة التي أنتجت هذه اللحظة المأساوية. عندما ينهار العقد الاجتماعي وتُخصخص الحماية وتُنهب الذاكرة وتُدمّر المعايير، يصبح كل شيء ممكناً، حتى المستحيل أخلاقياً وسياسياً. لكن هذا ليس قدراً نهائياً محتوماً. إنه وضع تاريخي، نتاج ظروف محددة، ويمكن تجاوزه. الشرط الأساسي لهذا التجاوز هو استعادة المجتمع لقدرته على التفكير السياسي المستقل، على إنتاج معاييره الخاصة، على رفض منطق السوق في تنظيم علاقاته الأساسية، على القول بوضوح: نحن بشر لا سلع، مواطنون لا زبائن، أصحاب حق لا متسوّلو حماية.

السويداء اليوم، مثل سوريا كلها، أمام مفترق طرق تاريخي حاسم. إما الاستسلام النهائي لمنطق التفتيت والتبعية، حيث كل جماعة تبحث عن حامٍ خارجي وكل فرد يبحث عن خلاص فردي. أو استعادة الصوت الجماعي، الصوت الذي يقول بوضوح لا لبس فيه: نريد دولة لا إقطاعيات، مواطنة لا ذمّية، عقداً اجتماعياً لا صفقات حماية. التاريخ، ذلك المعلّم القاسي، يُخبرنا أن الشعوب التي تبيع حريتها مقابل وعد بالأمان تخسر الاثنين معاً، وأن المجتمعات التي تقبل بمنطق الحماية الخارجية تجد نفسها في النهاية مستعبدة لحماة جدد أكثر قسوة من الطغاة الأصليين.

الدرس واضح وضوح الشمس، لكن وضوحه لا يعني شيئاً لمن اختار العمى. نحن لسنا أمام خيار بين الحياة والموت، هذا وهم. نحن أمام أشكال مختلفة من الموت: موت سريع بالرصاص، موت بطيء بالحصار، موت أبطأ بالذل. السويداء ليست استثناءً، هي المرآة التي تعكس حقيقتنا العارية القبيحة: شعب ميت يبحث عمن يدفنه بلطف. لا نريد العدالة، نريد قاتلاً أرحم. كما أننا لا نطلب الحرية، نطلب سجّاناً أقل سادية.

السوريون اليوم يتفاوضون على طريقة موتهم، لا على حياتهم. ما قيمة أن نتحدث عن المعنى في مسلخ؟ ما قيمة الكرامة لجثث تمشي؟ ما قيمة البقاء إذا كان ثمنه التحوّل إلى سلع في سوق يبيع الأوهام ويشتري الضمائر؟ هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، إنها أسئلة وجودية ملحّة تواجه كل سوري اليوم. والإجابة عليها، مهما كانت صعبة، هي التي ستحدد ليس فقط مصير السويداء أو هذه المنطقة أو تلك، وإنما مصير سوريا كفكرة وكإمكانية. الخيار ليس بين الموت والحياة، بل بين حياة بمعنى وحياة كالموت. وفي هذا الخيار بالذات، في القدرة على اختيار المعنى حتى لو كان الثمن باهظاً، تكمن آخر قلاع الكرامة الإنسانية، وربما، بذرة الأمل الوحيدة في مستقبل مختلف.

إذا لم نتحرك بشكل عاجل، لن يكون هناك أمل، ولا مستقبل، ولا معنى. فقط انتظار النهاية. وحتى هذا الانتظار، ربما سنحوّله إلى سوق، سنبيع فيه ما تبقى من أرواحنا، مقابل وعد كاذب بموت أقل إيلاماً.

مقالات مشابهة