هناك لحظات في تاريخ الشعوب تتوقف فيها عن كونها تاريخاً وتصير أساطير عن الفناء. سوريا تجاوزت هذه اللحظة منذ زمن. لم تعد بلداً يموت، صارت الموت نفسه وقد اتخذ شكل بلد. السويداء لم تكن فصلاً جديداً في المأساة، وإنما الإعلان الأخير عن اكتمال التحول: من وطن إلى مسلخ، من دولة إلى طقس دموي، ومن شعب إلى جوقة تُرتّل ترانيم فنائها.
لنكن دقيقين: ما يحدث في سوريا ليس حرباً أهلية، ولا صراعاً على السلطة، ولا حتى إبادة بالمعنى الكلاسيكي. الحروب الأهلية لها منطق سياسي، أطراف محددة، أهداف قابلة للتفاوض. الإبادات الكلاسيكية لها جلاد وضحية، فاعل ومفعول به، بنية واضحة للعنف. ما يحدث في سوريا يتجاوز كل هذا. إنه شيء لم تعرفه البشرية من قبل، شيء يحتاج إلى مفردات جديدة كي نفهمه. إنه “الإبادة الذاتية الطوعية” – إن جاز التعبير – لكن حتى هذا المصطلح قاصر. فالإبادة الذاتية تفترض وعياً بالذات المُبادة، والطوعية تفترض إرادة حرة. ما يحدث في سوريا أخطر: إنه تحلل أنطولوجي للفروقات ذاتها بين القاتل والمقتول، بين الجلاد والضحية، بين الفاعل والمفعول به.
الأب الذي يُسلّم ابنه للأمن مقابل بقائه، ثم يُعذَّب هو نفسه لاحقاً. الثائر الذي يُصبح شبّيحاً، والشبّيح الذي يُصبح لاجئاً. المُعذِّب الذي يُعذَّب بنفس الأدوات التي استخدمها. الشاهد الذي يصمت فيصير شريكاً، ثم ضحية، ثم ربما جلاداً. ليست أدواراً يتبادلها أشخاص مختلفون، هي أقنعة يرتديها الشخص ذاته في لحظات مختلفة، حتى تذوب الهوية في دوّامة العنف. هذا ما يُمكن تسميته “العنف الدائري المُطلق” – حيث لا بداية ولا نهاية، لا سبب ولا نتيجة، لا فاعل ولا مفعول. العنف يُنتج ذاته ويستهلك ذاته في حركة دائرية أبدية. كالثعبان الأسطوري الذي يأكل ذيله، لكن هنا الثعبان هو الشعب بأكمله، والذيل هو الرأس في آن واحد.
في ضوء هذا “العنف الدائري المُطلق” حيث تنهار الفروقات الأنطولوجية بين الفاعل والمفعول، تصبح السلطة السورية ظاهرة تتجاوز كل ما عرفته الفلسفة السياسية. هيغل تحدث عن الدولة كتجسيد للروح المطلق – لكن هذا يفترض وجود “روح” تسعى للتحقق عبر الجدل التاريخي. السلطة السورية ليست جدلية إنها دائرية، وهي لا تتقدم نحو تركيب أعلى، فقط تدور في فلك العدم. هوبز رأى الدولة كـ”لوياثان” – وحش ضروري لمنع حرب الكل ضد الكل. لكن السلطة السورية هي ذاتها حرب الكل ضد الكل، مُمأسسة ومُقوننة. حتى ماكيافيلي، في أحلك تصوراته، افترض أن الأمير يريد البقاء في السلطة، وبالتالي يحتاج إلى رعايا أحياء ليحكمهم، إلى دولة قائمة ليرأسها.
السلطة السورية تجاوزت حتى هذا الحد الأدنى من “العقلانية الشريرة”. إنها ليست ماكيافيلية تحسب وتخطط للبقاء، لكنها نيتشوية مشوّهة، إرادة قوة انقلبت إلى إرادة عدم. لا تسعى للسيطرة ولا للحكم بقدر ما تسعى للإفناء. وفي هذا السعي المحموم نحو العدم، تكشف عن سرها الأعنف: أنها هي ذاتها تجسيد للموت. لكن – وهنا المفارقة الكبرى – هذه السلطة التي هي تجسيد للعدم تحتاج، كي تستمر في عدميتها، إلى أن تُنتج باستمرار الوهم بأنها حية. من هنا الحاجة المرضية للعنف: ليس كأداة حكم لكن كبرهان وجود. “أنا أُميت، إذن أنا لست ميتاً بعد” هذا هو منطقها المقلوب. لكن كل فعل قتل يكشف أكثر عن موتها هي، فتحتاج لمزيد من القتل، في دوامة لا تنتهي إلا بالفناء المطلق.
السويداء كانت البرهان الأخير. ليس لأنها كانت “محمية” فانكشفت، لكن لأنها أثبتت أن مفهوم الحماية نفسه صار لا معنى له. في دولة العدم، لا أحد محمي لأن الحماية تفترض وجود شيء يستحق الحماية. والسلطة السورية لا ترى في رعاياها إلا مادة خام للموت.
العنف هنا ليس وسيلة ولا أداة للحكم. عندما يُقتل مواطن في السويداء، لا يُقتل لأنه عصى أو تمرد أو حتى وُجد في المكان الخطأ. يُقتل لأن القتل هو الفعل الوحيد الذي يُثبت أن السلطة ما زالت موجودة. “أنا أقتل، إذن أنا موجود” هذا هو الكوجيتو السوري الجديد. لكن الأخطر من هذا هو أن السلطة، في ممارستها للقتل كإثبات وجود، تكشف عن حقيقة مرعبة: أنها هي نفسها ميتة. الحي لا يحتاج لإثبات وجوده بالقتل. فقط الميت الذي يرفض الاعتراف بموته يحتاج لهذا البرهان الدموي المستمر. السلطة السورية جثة تحكم، وحكمها هو محاولة يائسة لنقل عدوى الموت إلى كل ما حولها.
هذه السلطة التي تُنتج الموت لتُثبت أنها ليست ميتة، هذه الدوامة من العدم التي تلتهم ذاتها، لا يمكنها أن تستمر في فراغ. العدم يحتاج إلى مادة يلتهمها، والسلطة/الجثة تحتاج إلى أحياء تُميتهم كي تتوهم الحياة. لكن الأمر أعقد من علاقة جلاد وضحية. ما يحدث في سوريا هو تواطؤ وجودي بين العدم وعدمه. لا نتحدث هنا عن “متلازمة ستوكهولم”، تلك التفسيرات النفسية المُعلّبة التي تفترض ضحية بريئة وجلاداً واضحاً. ولا حتى عن الخوف الذي يشل الإرادة، فالخوف يفترض رغبة في الحياة. ما نواجهه أخطر وأكثر رعباً: شعب اكتشف، في لحظة ما من تاريخه، أن الحقيقة ليست ثقيلة فحسب، وإنما قاتلة.
تخيّل أن تستيقظ يوماً لتكتشف أنك لست مواطناً في دولة، وإنما نزيل في مسلخ. أن تاريخك ليس تاريخ أمة، هو أشبه بسجل جرائم. هذا الاكتشاف يضعك أمام خيارين: إما المواجهة – وهذا يعني تفكيك كل ما بنيت عليه حياتك، أو الهروب إلى الكذب – ليس كخديعة مؤقتة، لكن كاستراتيجية وجود كاملة. الشعب السوري اختار الثاني. لكنه لم يخترِ الكذب كما يختار المرء قميصاً. اختاره كما يختار المنتحر طريقة موته – بيأس مطلق ووعي كامل. وعندما يُبنى وجود كامل على الكذب، لا يعود الكذب كذباً، لكنه يصير هو الحقيقة الوحيدة الممكنة. والحقيقة الأصلية تصير هي الكذبة، وتصبح الخطر الوجودي الذي يجب محاربته بكل الوسائل.
من هنا نفهم لماذا يُهاجم السوريون من يصرخ منهم. ليس حقداً أو قسوة، وإنما دفاعاً عن الذات. الصارخ يُهدد كينونتهم. يُذكّرهم بما قضوا سنوات في دفنه: أنهم ليسوا أحياءً يعيشون، أموات يتظاهرون بالحياة، وهذا تذكير لا يُغتفر. السويداء صرخت، فماذا كان الرد؟ لم يكن تضامناً ولا حتى صمتاً محايداً. كان هجوماً على الصارخين. “لماذا الآن؟”، “أين كنتم؟”، “من يحرككم؟” – أسئلة تبدو بريئة لكنها تخفي رغبة متجذرة في إسكات الصوت الذي يُذكّر بالحقيقة.
هذا الرفض للتضامن مع الضحية ليس قسوة عابرة ستزول مع مؤتمرات الصلح الأهلي، إنه آلية دفاع وجودية. الاعتراف بأن ما حدث في السويداء جريمة يعني الاعتراف بأن ما حدث في السلاحل جريمة، وما حدث في كوباني، وما حدث في حمص، وما يحدث كل يوم. يعني الاعتراف بأننا نعيش في دولة/مسلخ، وأننا جميعاً إما جزارون أو ماشية تنتظر دورها، وهذا اعتراف لا يُحتمل. فالأسهل هو اختراع سردية بديلة: “مؤامرة”، “أجندات خارجية”، “فلول”، “الهجري”، “فتنة طائفية”. أي شيء إلا الحقيقة البسيطة المرعبة: أننا نُذبح، وأننا نُشارك في ذبح أنفسنا، وأننا نُصفق للذابحين.
إنها “إرادة العبودية” في أنقى تجلياتها. ليست عبودية مفروضة بالقوة، وإنما مختارة بحرية. عبودية يُدافع عنها العبيد أنفسهم لأنها صارت جزءاً من هويتهم. والويل لمن يحاول تحريرهم، لأنه يُهدد ليس أغلالهم فحسب، وإنما كينونتهم ذاتها.
في هذا المشهد السريالي من القتل الممنهج والتواطؤ الجماعي، يأتي الفصل الأخير: بيع ما تبقى من وهم الوطن. سوريا لم تعد تُحتل بالمعنى التقليدي. الاحتلال يفترض مقاومة، ولو رمزية. ما يحدث في سوريا هو شيء آخر: بيع طوعي، متلهف، لكل ما يمكن بيعه. في باكو، اجتمع البائعون والمشترون. لم يكونوا يتفاوضون على أرض أو نفوذ، وإنما على جثة. كيف تُقسّم؟ من يأخذ أي جزء؟ بأي ثمن؟ والسلطة تجلس على الطاولة ليس كبائع حتى، لكن كدلّال يُسهّل الصفقة مقابل عمولة: البقاء في السلطة ولو كحارس على خرابة.
السويداء، في هذا السياق كانت اللحظة التي انكشف فيها أن البيع تجاوز الأرض والحجر إلى ما هو أعمق: بيع الذات نفسها. لكن الجديد مع سلطة أحمد الشرع ليس البيع، فهذا موروث قديم، الجديد هو طبيعته. الأسد كان يبيع وهو يتظاهر بالممانعة، الشرع يبيع وهو يُعلن “التحرير”. الأول كان يحتاج لأقنعة أيديولوجية، الثاني يمارس البيع كـ”واقعية سياسية” مكشوفة.
السلطة الجديدة التي تبيع السويداء لا تبيع تراباً وبشراً فحسب، وإنما تبيع إمكانية أن تكون سوريا دولة. تبيع الحاضر والماضي والمستقبل. تبيع التاريخ كسردية، والجغرافيا كانتماء، والهوية كاحتمال. لكنها تفعل ذلك بوقاحة مذهلة: “هذا ثمن البقاء”. كأن البقاء نفسه صار سلعة تُشترى بالتنازل عن كل ما يجعل البقاء ذا معنى. الفرق بين الأسد والشرع ليس في الفعل لكن في الخطاب. الأسد كان يبيع ويتحدث عن “الصمود”. الشرع يبيع ويتحدث عن “المصلحة”. الأول كان منافقاً، الثاني صريح في انتهازيته. وهذه الصراحة، بشكل مفارق، تجعله أخطر. لأن النفاق على الأقل يعترف ضمنياً بوجود معيار أخلاقي يُخالفه. أما الانتهازية المعلنة فتُلغي المعيار نفسه.
في هذا المزاد الكوني، السوريون ليسوا بائعين ولا مشترين. هم البضاعة ذاتها، لكن بضاعة من نوع خاص: بضاعة واعية بأنها بضاعة، ومشاركة في تسعير نفسها. اللاجئ الذي يبيع قصة مأساته للمنظمات، الناشط الذي يُحوّل الألم إلى “محتوى” قابل للتداول، حتى الشهيد الذي يُحوَّل موته إلى رقم في إحصائية – الكل يُشارك في هذا الاقتصاد المَرَضي حيث الإنسان هو السلعة والثمن في آن واحد. لكن مع السلطة الجديدة، ظهر نوع جديد من البضائع: “السوري الجديد” الذي يُعيد تعريف نفسه وفق متطلبات السوق. ليس مُكرهاً، لكن طواعية. يُغيّر خطابه، هويته، حتى ذاكرته، ليُناسب المشتري الجديد. من كان “مقاوماً” صار “معتدلاً”. من كان “علمانياً” اكتشف “هويته الإسلامية”. من كان صامتاً صار ناطقاً باسم “الواقعية”، إنها سوق للهويات المُعاد تدويرها.
الأفظع أن هذا البيع لا يحدث في الخفاء، إنه مشهد مكشوف. في باكو وباريس وأنقرة، يجتمع التجار لا ليتفاوضوا على الصفقة – فهي محسومة سلفاً – يجتمعون ليُضفوا عليها طقوس الشرعية. والسوريون يُشاهدون بنوع من اللامبالاة المُطلقة. كمن يُشاهد جنازته وهو حي، لكنه تجاوز حتى الرغبة في الاعتراض. هذه اللامبالاة ليست سلبية عادية، إنها نوع من “الحكمة المريضة”. حكمة من أدرك أن اللعبة أكبر منه، وأن دوره الوحيد هو أن يكون بضاعة جيدة. فيُحسّن من “عرض” نفسه، يُطوّر “مهاراته” في البقاء، يتعلم لغة السوق الجديدة. ليس استسلاماً أبداً، يعتبر تكيفاً داروينياً مع عالم صار فيه البقاء للأكثر قابلية للبيع.
في كل هذا العبث الدموي، جاءت السويداء لتكون لحظة الحقيقة. ليس لأنها قالت شيئاً جديداً، لكن لأنها كشفت، بصراخها ودمائها، عن عمق التحلل الذي وصلنا إليه. كشفت أن القتل صار عادياً لدرجة أنه لم يعد يستحق حتى التغطية الإعلامية. الموت في سوريا تحول من حدث إلى إحصائية، ثم إلى ملل. كشفت أن التضامن مات، وأن مكانه حلّ نوع من التشفي المَرَضي: “ذوقوا ما ذقنا”. عدالة المقبرة: أن يتساوى الجميع في الموت. كشفت أن السيادة لم تعد حتى وهماً يُدافع عنه، هي نكتة سمجة يتندّر بها القتلة في اجتماعاتهم الدولية.
لكن الأهم، كشفت أن السوريين لم يعودوا شعباً بأي معنى سوسيولوجي أو سياسي. الشعب يفترض حداً أدنى من الروابط: ذاكرة مشتركة، مصير مشترك، أفق مشترك. السوريون اليوم شظايا بشرية. كل شظية لها سرديتها، خلاصها الخاص، موتها الخاص. حتى في الألم لا يشتركون. السويداء صرخت في وجه هذا التشظي. لكن المشكلة لم تكن في الصراخ، كانت في توقيته. السويداء ارتكبت خطأً قاتلاً: صرخت في الوقت الخطأ. ليس متأخرة – فالتأخر يُغتفر. صرخت في لحظة “ما بعد الصراخ”. في زمن تحول فيه الألم من تجربة حية إلى أرشيف، من واقع مُعاش إلى ذاكرة مُدارة.
السوريون كانوا قد توصلوا، بشكل غير معلن، إلى “اتفاق الصمت”. ليس صمت الخوف، صمت التواطؤ على تحويل المأساة إلى روتين قابل للإدارة. نوع من “الطبيعة الجديدة” حيث الموت جزء من النظام البيئي، لا يُحارَب ولا يُرثى، فقط يُدار. السويداء خرقت هذا الاتفاق، ذكّرت بأن الموت ما زال موتاً، وأن الألم ما زال ألماً. الرد لم يكن غضباً، الغضب عاطفة حية. كان شيئاً أبرد: محاسبة. “أين كنتم؟” ليس سؤالاً بقدر ما هو اتهام بخرق البروتوكول. “من يحرككم؟” ليس شكاً، هو فقط تذكير بأن الألم الفردي ممنوع في زمن الألم الجماعي المُمأسس. السويداء لم تُهاجَم لأنها تألمت، لكن لأنها تألمت خارج النظام المُتفق عليه للألم.
الحقيقة أن السوريين طوروا ما يمكن تسميته “اقتصاد المأساة”. نظام معقد حيث لكل ألم سعره، لكل دمعة قيمتها التبادلية، لكل صرخة موقعها في السوق. والسويداء، بصراختها العفوية، هددت هذا الاقتصاد. أدخلت تضخماً في سوق منضبط. خربت التوازن الدقيق بين العرض والطلب على المآسي. في دولة فاشلة، الصراخ له معنى، احتجاج، مطالبة، أمل في التغيير. في مقبرة ناجحة، الصراخ تشويش. يُخرب الطقوس، يُربك الترتيبات، يُذكّر بما اتُفق على نسيانه: أن هذا ليس نظاماً طبيعياً، إنه جنون مُمأسس. والجنون، كي يستمر، يحتاج إلى الانضباط. السويداء رفضت الانضباط. وهذا، في سوريا اليوم، أخطر من أي تمرد سياسي.
في ختام ما لا يُختتم…
في الختام، ولأننا نعود دائماً إلى البداية، إلى لحظة توقفت فيها سوريا عن أن تكون “بلداً” بالمعنى التقليدي وصارت مقبرةً جماعيةً تُدار كدولة، لا بدّ من القول بوضوح إن السوريين لم يكونوا مجرد ضحايا لهذا الجنون المُمأسس، لقد كانوا شركاء في صناعة المذبحة. إن الجريمة الأكبر ليست في القتل ذاته، وإنما في هذا التواطؤ الجماعي الذي حوّل القتل إلى طقسٍ يوميّ، إلى حياة اعتيادية تمارسها الأغلبية الصامتة وهي تعلم تماماً أنها متورطة حتى العظم في التستر على الموت، وفي منح القتلة شرعية الصمت.
لقد حوّل السوريون بلادهم إلى مسرح مفتوح للكذب المُتَّفق عليه، وحاربوا بشراسة من حاول أن يفضح حقيقة هذه المسرحية الدموية. هكذا تحولت السويداء، عندما صرخت، إلى متهمةٍ بالتخريب. لم يكن ذنبها أنها تألمت، لكن أنها رفضت أن يكون ألمها مجرد سلعةٍ تُضاف إلى بورصة الآلام السورية. رفضت أن يكون الموت عاديّاً، أو أن تكون الجريمة روتيناً.
هذا المجتمع الذي اختار بملء إرادته أن يحيا في كذبةٍ مُطلقة، وأن يُصفّق لجلّاديه، لا يحقّ له بعد الآن أن يدّعي البراءة أو أن يطالب بالعدالة. لأن العدالة تبدأ من لحظة مواجهة الذات بحقيقتها المرة: أننا لم نعد شعباً يُقتل، أصبحنا جماعةً تواطأت بوعي كامل على قتل نفسها، جماعة اختارت الصمت، ثم تواطأت على قتل كل من يرفضه.
هذا ما آل إليه أمرنا، وهذا ما ارتضيناه أن يكون مقامنا. ليس لأننا عاجزون، لكن لأننا جبناء بما يكفي لنخاف الحقيقة، ومراؤون بما يكفي لنصنع لها بدائل. فالشجاعة التي يحتاجها الاعتراف لم تعد في متناولنا، لا شجاعة الصمت أمام الفظاعة، ولا شجاعة الفعل ضدها. اخترنا الأكذوبة لأنها أرحم من الحقيقة. واخترنا البقاء، ولو في الجحيم، شرط ألا نغيّر شيئاً.