السويداء كمرآة: الدولة التي لا ترى إلا بعين المذهب

في سوريا، لا يأتي الخراب دفعة واحدة، بل كعادته، متخفياً بثياب المسؤولية. الاشتباكات التي اندلعت مجدداً في محافظة السويداء ليست مفاجئة، هي النتيجة المنطقية لتراكم طويل من الغياب الممنهج للدولة، ومن التواطؤ الصامت مع أمراء السلاح، ومن سياسات قائمة على الانتقاء الطائفي واللامساواة في توزيع “الشرعية”. ما حدث في حي المقوس ثم امتدّ إلى قرى الريف الغربي والشمالي، ليس صراعاً أهلياً بالمعنى الكلاسيكي، هو ترجمة عنيفة لفشل مركزي في فهم معنى الدولة، وفي تطبيق الحد الأدنى من مسؤولياتها.

لكن ما يتكشف في السويداء يتجاوز مأساة محلية. إنه العَرَض الذي يفضح المرض، الهامش الذي يُعرّي المركز. فالسلطة التي استولت على دمشق في الثامن من ديسمبر، والتي تدّعي أنها جاءت لـ”تحرير” سوريا و”توحيدها”، تمارس في الواقع لعبة أكثر تعقيداً وخطورة: إعادة إنتاج التفتت تحت يافطة الوحدة، تكريس الانقسام باسم التحرير، بناء نظام طائفي صريح بخطاب “وطني” مُزيّف. والسويداء، بحكم موقعها الجغرافي والرمزي، تُشكّل المختبر الأمثل لهذه السياسة، والضحية الأولى لتناقضاتها المميتة.

في السويداء يوجد محافظ معيّن من دمشق، وعلى عكس كل محافظات سوريا هو الوحيد الذي يعمل في محافظة لا ينتمي إليها. كما يوجد مندوب وزارة الداخلية، وقائد شرطة أيضاً على رأس عمله. لكن هذا الحضور الشكلي يُشبه طقوساً جنائزية تُقام لميت لم يُدفن بعد. الموظفون موجودون في مكاتبهم، يتقاضون رواتبهم، يمارسون طقوس السلطة الفارغة، بينما الواقع خارج مكاتبهم المكيّفة يروي قصة أخرى تماماً: فوضى مُنظّمة، عنف مُمنهج، انهيار تدريجي لكل ما يُشبه الدولة. وجودهم لا يؤكد سيطرة الدولة بقدر ما يؤكد غيابها، هم الدليل الحي على أن السلطة يمكن أن توجد بلا دولة، وأن الإدارة يمكن أن تعمل في فراغ تام.

الطريق بين دمشق والسويداء – ذلك الشريان الذي يُفترض أن يربط المحافظة بالعاصمة – تحوّل إلى استعارة دامية للعلاقة بين المركز والهامش في سوريا الجديدة. عند حاجز المسمية تحديداً، تتجلى طبيعة “الدولة” في أنقى صورها: نقطة تفتيش تحولت إلى كمين دائم، حاجز أمني صار مسلخاً بشرياً، ممر إجباري يُفضي إلى الموت أو الإذلال. الاعتداءات المتكررة – سرقة، إهانة، قتل – ليست “تجاوزات فردية” كما تحب السلطة أن تصفها، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى شيء أبعد من مجرد النهب: كسر إرادة السويداء، تحويلها إلى رهينة دائمة، إجبارها على الخضوع أو الموت.

والأكثر دلالة من الاعتداءات ذاتها هو الصمت الرسمي المطبق حيالها. اتفاق أيار الماضي – ذلك الذي وُقّع بحضور “مشايخ ووجهاء” في مسرحية بائسة من مسرحيات السلطة – نص صراحة على أن الحكومة ستؤمّن الطريق. لكن الحكومة التي لا تحكم، والسلطة التي لا تملك سلطة، والدولة التي ليست دولة، كيف لها أن تؤمّن طريقاً؟ الحقيقة أن عدم تأمين الطريق ليس فشلاً، بقدر ما هو سياسة. إبقاء السويداء تحت التهديد الدائم أداة ضغط أكثر فعالية من أي حصار عسكري. الخوف اليومي من الموت على الطريق يُحوّل كل رحلة إلى مغامرة، كل سفر إلى قرار وجودي، كل تواصل مع الخارج إلى معركة بقاء. وهنا تتجلى أزمة الدولة السورية بوصفها كائناً رمزياً لا وظيفياً، كما تشير أدبيات الدولة الهجينة، حيث تُمارس السلطة كطقس رمزي، بينما تُفوّض الوظائف السيادية إلى جهات موازية. إنها ليست دولة فاشلة بالمعنى التقليدي، لكنها دولة تتعايش مع فشلها كجزء من بنيتها.

لا يمكن فصل هذه الاشتباكات عن المشهد السوري الأوسع: ميليشيات تحتفظ بأسلحتها “للطوارئ”، وطوارئ تعني في الواقع “الفيتو المسلح”، الحصانة المطلقة ضد أي قانون، والمبرر الجاهز لفرض القوة بدل السياسة. ولكن ماذا عن السويداء؟ لماذا يُفرض عليها وحدها نزع السلاح؟ ولماذا يُمنح آخرون – باسم العشائر تارة وباسم التوازن تارة أخرى – الحق في البقاء مسلحين؟ أين تنتهي سلطة القانون وأين تبدأ استنسابية السلطة؟

اليوم، يُسمح لأبناء العشائر بحمل السلاح الثقيل، جهاراً، داخل السويداء وخارجها، دون أن يُسألوا عن مرجعية أو ولاء أو غاية. فيما يُطلب من أبناء الجبل، الذين لم يوجّهوا رصاصة واحدة نحو النظام، لا سابقاً ولا لاحقاً، أن يُسلّموا سلاحهم باسم “الاستقرار”. استقرار من؟ ولمن؟ المفارقة أن من يهاجم السويداء اليوم هم أنفسهم من قطعوا طريقها، ونهبوا أهلها، وقصفوا حدودها، ثم جاؤوا بدور “الحَكم”. تُعاقب الضحية على حذرها، بينما يُكافأ المعتدي على عربدته. فهل كُلِّف هؤلاء بتأديب المدينة التي لم تخضع؟ أم أن الدولة، كما تعرّفها السلطة، لا تُبصر إلا عبر عين المذهب؟

إذا لماذا السويداء مطالبة بتسليم سلاحها؟ السؤال بسيط والجواب أبسط، لكنه من تلك الأجوبة التي يخجل الجميع من النطق بها: لأن السويداء ليست سُنّية. في سوريا “المحررة”، السُنّي المسلح “ثائر” حتى لو كان قاطع طريق، وغير السُنّي المسلح “ميليشيا” حتى لو كان يدافع عن بيته. السُنّي يحتفظ بسلاحه “احتياطاً” للدفاع عن “الثورة”، وغير السُنّي يجب أن يُجرّد من سلاحه لأن وجوده المسلح ذاته “تهديد للسلم الأهلي”. هذه ليست قراءة متعسفة للواقع، بل الواقع عارياً من أي تجميل. نزع السلاح في سوريا الجديدة له هوية طائفية واضحة، مذهبية صريحة، عنصرية لا تحتاج إلى برهان.

السويداء تفهم هذه المعادلة بوضوح مؤلم. تدرك أن المطلوب ليس سلاحها فقط، بل كرامتها. ليس تجريدها من القوة العسكرية فحسب، ولكن تجريدها من القدرة على المقاومة، من إمكانية الرفض، من حق القول “لا”. في بلد تحكمه ميليشيات متوحشة، السلاح يتحول إلى رمز للوجود السياسي. من يملك السلاح يملك حق الكلام، ومن يُجرّد منه يُحكم عليه بالصمت الأبدي. السويداء تتمسك بسلاحها ليس حباً في العنف – تاريخها يشهد أنها من أقل المناطق السورية دموية – بل إدراكاً أن البديل هو الموت البطيء، الذوبان التدريجي، الاختفاء الصامت من خريطة الوجود.

والحكومة تلعب دوراً أقبح من الصمت: دور المحرّض العلني. عندما تسمح للعصابات بقطع الطرق دون محاسبة، عندما تترك الاعتداءات تتصاعد دون تدخل، عندما تتجاهل نداءات الاستغاثة المتكررة، فهي عملياً تُشعل النار. وعندما تنفجر الأوضاع – كما حدث أمس – تخرج لتتباكى على “الفتنة” و”الحرب الأهلية”، متجاهلة أنها هي من زرع بذورها وسقاها ورعاها حتى أثمرت دماً.

الأسئلة التي طرحها أهالي السويداء على “حكومتهم” تستحق التوقف عندها، ليس لأنها تتوقع أجوبة – فالسلطة التي لا تملك سلطة لا تملك أجوبة – بل لأنها تُعرّي المشهد: هل العشائر المسلحة التي تهاجم السويداء تعمل بتكليف حكومي؟ هل نزع السلاح يشمل الجميع أم فئة محددة طائفياً؟ هل الدولة المزعومة دولة لكل السوريين أم لطائفة بعينها؟ الصمت الرسمي أبلغ من ألف جواب: نعم، العشائر مُكلّفة ولو ضمنياً. نعم، نزع السلاح طائفي. نعم، الدولة ليست للجميع.

ما يحدث في السويداء تجاوز كونه مجرد صراع محلي يمكن احتواؤه بـ”حكمة المشايخ” أو “تدخل العقلاء”. إنه تجلٍّ دامٍ لاستحالة الدولة السورية في شكلها الحالي. دولة تُؤسس على الإقصاء لا يمكن أن تكون جامعة. سلطة تُبنى على التمييز الطائفي لا يمكن أن تكون عادلة. نظام يحكم بمنطق الميليشيات لا يمكن أن يُنتج إلا المزيد من العنف. السويداء مرآة تعكس هذه الاستحالة بوضوح لا يُحتمل، ولذلك يجب تحطيمها أو إسكاتها أو إجبارها على الخضوع.

لكن السويداء – وهذا ما يُرعب السلطة – ترفض الخيارات الثلاثة. لا تقبل أن تُحطّم، لأنها تعرف أن وجودها ضروري ليس لها فقط لكن لما تبقى من إمكانية سوريا. لا تقبل أن تُسكت، لأنها تحمل أسئلة لا يمكن للمستقبل أن يُبنى دون الإجابة عليها. ولا تقبل أن تخضع، لأن خضوعها يعني نهاية آخر بقعة ضوء في ليل سوري طويل. 

إنها تُصرّ على البقاء كما هي: سؤالاً مفتوحاً في وجه أجوبة مُغلقة، احتمالاً للاختلاف في زمن التماثل القسري، رفضاً عنيداً للاختيار بين الموت قتلاً أو الموت خضوعاً. وفي هذا الإصرار، في هذا العناد الوجودي، تكمن قيمتها الحقيقية. ليس كمدينة درزية تدافع عن خصوصيتها، وإنما كآخر معقل لفكرة أن سوريا يمكن أن تكون شيئاً آخر غير مسلخ طائفي كبير.

الدم الذي سال أمس ويسيل اليوم لن يكون الأخير. والأسئلة التي تطرحها السويداء ستبقى بلا أجوبة. لكن في هذا الدم، في هذه الأسئلة، في هذا الرفض العنيد للموت الصامت، ثمة شيء يُشبه الأمل. ليس أمل النصر – فالمعركة خاسرة سلفاً – بل أمل الشهادة. شهادة أن هناك من رفض، من قاوم، من أصرّ على أن يموت واقفاً في زمن الركوع الجماعي. وربما، في تاريخ لم يُكتب بعد، ستكون هذه الشهادة هي البذرة التي تنبت منها سوريا أخرى. سوريا لا تُبنى على الدم والإقصاء، لكن على الحق والعدل. لأن سوريا التي تُبنى فوق رماد السويداء لن تكون سوريا. والسويداء التي تُقاتل لتحتفظ باسمها لا تحارب من أجل الجبل فقط، وإنما من أجل فكرة: أن الكرامة ممكنة، حتى في قلب هذا الجحيم.

مقالات مشابهة