شركة اسمها سوريا: عن سلطة بلا دولة وشعب بلا تمثيل

لا تُبنى الدول على التوسل. ولا تُنتزع الشرعية من على أبواب السفارات. ومع ذلك، هذا بالضبط ما تفعله السلطة الجديدة في سوريا: تخلع لباس الجهاد حين تدخل المفاوضات، وتستعيده حين تطمئن إلى صمت المجتمع الدولي. تتنقّل بين خطاب ديني وخطاب مؤسساتي كمن يتنقل بين زيّين رسميين. لا لأنها تمتلك مشروعاً، ولكن فقط لأنها لا تعرف كيف تحكم دون أقنعة.

في النموذج السوري الراهن، لا نرى دولة تتكوّن، إنها مجرد آلية قمع تتقن التمويه. السلطة تتخفى وراء مفردات الدولة الحديثة، بينما تستبطن منطق العصابة. لا دستور، لا مشروع حكم، لا فكرة جامعة. فقط طاولة مفاوضات تُدار في أنقرة، يُراقَب مسارها من تل أبيب، وتُمنَح وعودها في باريس وواشنطن. أما الداخل، فمُستبعد من المعادلة، كأنه كتلة إزعاج يجب تأطيرها لا تمثيلها.

الشرعية، في هذا السياق، لا تُبنى، تُسوَّق. تُجمَّع من أطراف الخارج لتُصبغ على بنية داخلية، حيث أنها لا تمتلك سنداً اجتماعياً حقيقياً. كل شيء يُدار بمنطق الصفقات: القليل من الاستقرار مقابل القليل من الاعتراف، بوابة حدودية مقابل صمت دولي، تجميد الجبهات مقابل ضمانات لإسرائيل. لا سيادة هنا، فقط خصخصة للنفوذ. لا وطن، وإنما شركة تُدار وفق دفتر شروط خارجي.

أحمد الشرع لا يحكم لأنه يمثل السوريين، ولا لأنه يطرح تصوراً لسوريا ممكنة. يحكم لأنه نجا من الحرب، لأنه كان الطرف الوحيد الذي امتلك فائض القوة حين انهار كل شيء. الآن، يحاول تحويل هذا الفائض إلى سلطة مُعترف بها، دون المرور من بوابة الناس. يريد أن يُعامل كحاكم، لا لأنه أنقذ البلاد، وإنما لأنه أتقن فن البقاء.

لكن السؤال الحقيقي ليس عن مهارته في البقاء. السؤال هو: على حساب مَن؟ لا أحد يذكر الكُرد في خطاب الدولة الجديدة. لا أحد يتحدث عن تمثيل سوري حقيقي. لا أحد يعيد طرح فكرة التعدد بوصفها بنية للمجتمع لا تهديداً له. السلطة لا تفاوض قوى الداخل، فقط تتحاشاها. وبنفس الوقت لا تتحاور مع المكونات، لكن تختار من يمثلها على هواها. تريد شراكة وهمية مع الخارج، وإقصاء كامل للداخل.

في غرف مغلقة، تُعرض سوريا كملف إداري. الأمن أولاً، الأمن أخيراً، وما تبقى تفاصيل. العدالة مؤجلة، السياسة ترف، والمجتمع خطر محتمل. هذه ليست دولة في طور التشكّل، إنها سلطة طارئة تبحث عن شهادة حسن سلوك كي تُمدَّد ولايتها.

الطامة الكبرى ليست في السلطة غير القانونية وحدها، لكن في جمهور من المصفقين المستجدين. نشطاء ونشيطات، خرجوا من عوالم المنظمات وورش العمل و”إنتاج الأمل المعلب”، ليصبحوا لسان حال السلطة التي كانوا بالأمس ينتقدون شبيهتها. هؤلاء لا يرون مشكلة في تغييب الكرد عن مشهد الحكم، لا يجدون حرجاً في تبرير ما يحدث في السويداء، لا يسمعون صراخ النساء المعنفات ولا بكاء العابرن/ات جنسياً، كل ذلك باسم “الأخلاق العامة”، ولا يرون فرقاً بين محكمة مدنية ومجلس شورى. المهم أن “الدولة” وُجدت، أي دولة؟ بأي شروط؟ لا أحد يسأل.

هناك موجة كاملة من “الواقعيين/ الشبيحة الجدد”، الذين يعتقدون أن الحل الوحيد هو الرضى بالواقع كما هو، ولو كان على حساب من صمدوا وقاتلوا وراهنوا على مشروع وطني حقيقي. هؤلاء ليسوا طارئين فقط على السياسة، هم أعداء للفكرة السياسية نفسها. يبررون القمع باسم “المرحلة الانتقالية”، يبررون الاستبداد باسم “الاستقرار”، يبررون تغييب النساء والأقليات باسم “الخصوصية الثقافية”. هذا الخطاب أخطر من خطاب السلطة نفسها، لأنه يُقنع الضحايا بأنهم مبالغون بالصراخ، ويُقنع الآخرين بأن الإصلاح ممكن من داخل بنية ترفض الإصلاح أصلاً. كل هؤلاء، سلطات و”مُكتشفي الإيجابيات”، جزء من مأساة طويلة: مأساة تصغير الحلم السوري إلى مستوى صفقة، ومسخ السياسة إلى إدارة بؤس. لا أحد يريد دولة. الجميع يريد فقط موقعاً آمناً في الخراب.

هنا يكمن الانقلاب: الثورة التي طالبت بالديمقراطية تُختصر في سقوط نظام، والنظام الذي سقط يُعاد تدويره في هيئة جديدة، تُجمِّل وجهها وتُحدِّث مفرداتها، دون أن تقترب من جوهر التغيير. الذين يروجون لهذا النموذج لا يرون أنهم يبررون نسخة جديدة من النظام القديم. نسخة تُدار بمصطلحات أكثر تهذيباً، لكن بمخيلة أمنية أضيق. السلطة اليوم لا تطالب بالشرعية من الناس، تسأل فقط إن كان صوتها واضحاً في مراكز القرار الدولية. وما يُطلب من الناس هو الصمت، أو التصفيق، أو القبول بأدنى مستويات الحياة مقابل أدنى مستويات الأمان.

لكن ما يجري ليس استقراراً، إنه هدنة موقّتة بين انهيارين. لا إدارة مدنية فعلية، لا عدالة انتقالية، لا ميثاق وطني، لا مشروع لإعادة تعريف الدولة. فقط إدارة مؤقتة لرعب مزمن، بانتظار من يشتري هذا الكيان أو يُعيد تأجيره. في مثل هذا السياق، لا يكون السكوت حياداً، وإنما مشاركة. لا يكفي أن نقول إن السلطة لا تمثلنا. علينا أن نُسمّي من يبررها، ومن يسوّق لها، ومن يزعم أن الزمن لا يحتمل الترف الديمقراطي. لأن الكارثة لا تصنعها السلطة وحدها، أيضاً الإجماع الصامت حولها.

سوريا، كما تُقدَّم اليوم في المفاوضات، ليست بلداً، إنها مساحة محكومة بالتفاهمات الخارجية، ومقفلة في وجه أهلها. لا أحد يطرح السؤال عن مصير العلويين، عن تمثيل الكُرد، عن ضمانات للأقليات المهددة بالإبادة، عن حقوق النساء. كل شيء مؤجّل حتى إشعار آخر، أو حتى يأتي الخطر الأكبر، الذي سيُقنعنا مجدداً أن الصمت فضيلة.

بياع الوعود لا يطرح رؤية. يطرح سلطة بلا معنى، واستقراراً بلا عدالة، وشرعية بلا مواطنين. يفاوض على ثقة الخارج، ويطلب من الداخل أن يصدّق أنه يحكم. لكنه لا يحكم، يُدير أزمة، يضع قفلاً على الفوضى، ويقدّمها بوصفها دولة.

أما سوريا، فهي لا تُبنى بالحد الأدنى من السياسة. لا يمكن أن تكون مشروع دولة ما لم تبدأ من جديد: من الميثاق، من التمثيل، من العقد الاجتماعي، من المجتمع الحي لا الميليشيا. إما أن تكون مشروعاً عاماً، أو أن تبقى كما هي: كياناً مسلّحاً لا يعترف إلا بمن يخضع له.

وفي وجه هذا، لا تكفي المعارضة. لا يكفي أن ننتقد، أو نحلل، أو نتحسّر. لا بد أن نفضح البنية، أن نفكك الخطاب، أن نعيد تأسيس المعنى. لا بد أن نقول، دون تردد: هذه ليست دولة، هذا ليس انتقالاً. هذه مجرد هدنة، تُدار فيها البلاد كأنها شركة أمنية، وتُقيّد فيها الناس كأنهم تفاصيل مزعجة في سجل النفوذ.

والبلاد التي تصفق لجلادها كي لا تخسر وهم الأمان، تستحق كل ما سيأتيها من قهر، لأن الصمت في حضرة الظلم ليس حياداً، هو شراكة في الجريمة.

مقالات مشابهة