بالكاد يبدّل بذلته، لكن كل ما تحته يبقى على حاله: جلد أمني سميك، وعقلية غزوة، ولغة لا تتقن إلا فرض الطاعة. أحمد الشرع، المندوب الرسمي لعصر ما بعد الأسد، يصل إلى باريس لا كرئيس دولة وإنما كمروّج لسلطة هجينة، تستعير قاموس الحداثة وتبقي مسدساً تحت الطاولة. هو بالتأكيد لا يحمل مشروعا وطنياً، فقط عرضاً تسويقياً لنظام لا يملك من الدولة إلا اسمها، ومن السيادة إلا صدى صوتها القديم.
يتوهّم المبتهجون بزيارة الشرع أنهم يشهدون لحظة استعادة سيادة. بينما الحقيقة أكثر فجاجة: السلطة التي تم استعراضها في باريس لا تملك اعترافاً شعبياً، حتى وإن كان صوت مطبليها يملأ الفضاء الالكتروني، وهي أيضاً لا تملك شراكة سياسية حقيقية، ولا حتى القدرة على إدارة أجهزتها دون وسطاء أتراك وقطريين. وهي فوق ذلك، لم تخرج يوماً من عباءة الحرب، ولا تزال تعيش بمنطق من كسب الأرض لا من نال الشرعية.
فرنسا، التي طالما كانت هدفاً لشتائم حرّاس السلطة الجهادية واتهاماتهم المعلّبة برعاية “الحكم العلوي”، تفتح اليوم أبواب الإليزيه لرجل خرج من أعمق طبقات الإسلام السياسي وأكثرها براغماتية. لا يمثل الشرع قطيعة مع الطائفية، لكنه يمثل نسختها المحدّثة: خطاب مذهبي بهيئة تكنوقراطية، واستبداد ملوّن بديكور المرحلة الانتقالية. لكن ما يحدث لا يعبّر عن تحوّل في جوهر السلطة، لربما يعبر أكثر عن تحوّل في شهية العواصم الغربية. فباريس، كغيرها، لا تسأل عن طائفة يحكم دمشق بقدر ما تسأل: هل يمكن ضبطه؟ هل يمكن التفاهم معه؟ هل يستطيع أن يبيعنا استقراراً رخيصاً بلا كلفة أخلاقية؟ الديمقراطية قطعاً ليست على الطاولة، وما يُطلَب من الشرع ليس أكثر من الانضباط والسكوت، وتجميل الخراب بما يكفي ليُعرض على الشاشات دون أن يزعج الضمير الأوروبي.
لكن حتى هذا لم يتحقق. في المؤتمر الصحفي، قدّم ماكرون موقفاً واضحاً: لا استقرار دون عدالة، لا دعم دون حماية الأقليات، ولا إعادة إعمار دون محاسبة. دعا إلى ضمان تمثيل الأكراد الكامل في مستقبل الدولة، وذكّر بالمجازر المرتكبة ضد الدروز جنوب البلاد، مطالباً بـ”تحويل المبادئ إلى أفعال”. أما الشرع، فقد ردّ بجملة من الجُمَل المجوّفة: الحديث عن “الخروج من رواسب النظام السابق”، “بناء الدولة”، “مواجهة التحديات”، وغيرها من العبارات التي لا تكشف شيئاً سوى الخوف من الالتزام. هو لم يعترض على مطلب العدالة، لكنه لم يلتزم به. لم يرفض إشراك الأكراد، لكنه لم يقرّ بحقهم السياسي. لم يهاجم الغرب، لكنه لم يقدم له أي ضمانة سوى التهدئة المؤقتة. ردّه على الغارات الإسرائيلية كان كاريكاتيرياً: “لا شيء يبررها”، لكن لا إجابة عن كيف ولماذا ولمَن؟. الأكثر إثارة للسخرية، قوله إن هناك “محادثات غير مباشرة مع إسرائيل”، وكأنّه رئيس لدولة طبيعية لا تحكمها الميليشيات ولا تحرسها الفتاوى.
الشرع لا يقدّم مشروعاً وطنياً، هو يبيع خطاباً مستهلكاً لا يصدّقه حتى من يكتبه له. يتحدث باسم جميع السوريين وهو لا يمثّل إلا من بايعوه على السمع والطاعة. يروّج لفكرة الاستقرار في بلد تغلق فيه المحلات بـ”أمر الحسبة”، وتُصفع فيه النساء في الشوارع لأن لباسهن لا يُرضي المزاج الأمني. يدّعي تمثيل الجميع، فيما تُقصى القوى الكردية، ويُشيطن المعارضون المدنيون، وتُدار البلاد من وراء ستار لجان شرعية ومجالس عسكرية. يقدّم نفسه كممثل لوحدة وطنية لم تُبْنَ أصلاً، فقد تمّ حشوها فوق ركام الانقسام، وطلاؤها بكلمات مستعارة لا تستر شيئاً من هشاشتها.
في كل ما قاله الشرع، لم يخرج عن النص المحفوظ: تكرار مطلي بلغة مهذبة، والتفافات مدروسة تملأ فراغ المعنى، وابتسامات مصطنعة تخفي بنية سلطوية تنخرها أدوات النظام القديم حتى العظم. لا جديد في الوعود، ولا جديد في الكذب المقنّن. السلطة التي يمثلها لم تفتح تحقيقاً حقيقياً في مجازر الساحل، ولم تحاسب من أطلق الرصاص على المدنيين، ولم توقف حملات الترهيب اليومية في الشوارع والساحات. الأسوأ من ذلك، أنها لا ترى في كل ذلك تجاوزاً، وإنما تعتبره استعادة “للأخلاق”، وإعادة “لانضباط المجتمع”؛ تلك العبارة التي لطالما استخدمها الطغاة لتبرير سحق الناس باسم النظام.
وماكرون الذي وضع النقاط كما يجب، أكد على استمرار العقوبات ما لم تحصل خطوات ملموسة. جدّد دعم باريس لـ”قوات سوريا الديمقراطية”، وذكّر بأن دعم إعادة الإعمار مشروط بالحوكمة والشفافية. لم يبالغ في الترحيب. ولم يُسلّم بالمظاهر. فقد قالها صراحة: “نحكم على الأفعال لا على النوايا”. أما الشرع، فتابع تقمص دور رجل الدولة… رجل بلا دولة.
في الواقع لا أحد يصدّق أحمد الشرع، لا لأن كذبه مبتذل، لكن لأن صدقه مستحيل. من يقف على رأس سلطة تمارس القمع كل صباح وتبيع الوعد كل مساء، لا يملك لغة للحقيقة حتى لو أراد النطق بها. كيف يثق به من يعرف ما يجري في حمص وحماة ودمشق؟ من يعرف عن عودة الفروع الأمنية إلى أحياء المدينة، عن رقابة اللباس والموسيقى، عن مطاردة النساء بتهم “الأخلاق”، عن التهديد الصامت الذي يتسلل إلى البيوت والمؤسسات والمساجد؟ لا يملك “بياع الوعود” رأس مال سوى النفي، ولا بضاعة سوى التسويف. ما يقدّمه في المؤتمرات لا يمكن اعتباره مشروعاً، بالأكثر هو نشرة إعلانية مشذبة لسلطة مفلسة أخلاقياً وسياسياً. الوجوه تتغير، لكن “السلة” تبقى هي ذاتها: وعود مغلّفة بلغة دبلوماسية ناعمة، مفرغة من أي التزام فعلي. والنتيجة واحدة: شرع بلا شرعية، وكلام بلا أثر، وسوق أوهام لم تعد تقنع حتى أكثر المتفائلين سذاجة.
الحقيقة التي يصعب إنكارها، أن سوريا لا تحتاج إلى واجهة جديدة لذات النظام، لا تحتاج إلى ربطة عنق تخفي أثر التطرف، وبالتأكيد لا تحتاج إلى ابتسامة تبرّر القمع. سوريا تحتاج إلى من يكفّ عن بيع الأوهام، ويبدأ، أخيراً، بالحديث عن الحقائق. وهذه ليست مهنة الشرع.