من يزرع الكراهية حقاً؟ سؤال يبدو زائداً عن الحاجة في بلادٍ تكاثرت فيها القبور أسرع من الأسئلة. من يهتف اليوم بإبادة جماعة دينية بسبب تسجيل ملفق لا يحتاج إلى قناعة ولا إلى سبب، يكفيه ذاكرة مثقلة بالخوف، وجراح قديمة تبحث عن فريسة جديدة. الشتائم، التسجيلات، الإهانات، لم تكن يوماً سبب الخراب، كانت فقط الذريعة. الذريعة التي انتظرها المجتمع طويلاً لينتقل من زمن الانتظار إلى زمن الذبح.
لم تكن الحرب السورية درساً، كانت تمريناً أولياً على كيفية أن يواصل مجتمع قتاله مع نفسه حتى وهو يظن أنه ينجو. النظام الذي انهار جزئياً لم يترك وراءه سوى ما هو أشد من الاستبداد: مجتمع متفسخ، تحكمه ثقافة الخوف والكراهية، يرى في الجار مشروع قاتل نائم، وفي الطائفة المجاورة قنبلة تنتظر الإذن بالانفجار. كان يمكن للخروج من حرب أهلية طويلة أن يكون مناسبة لالتقاط الدرس، لفهم أن الدم لا يبني وطناً، وأن الكراهية لا تحفظ ذاكرة. غير أن السوريين خرجوا منها كما يخرج جريح من غرفة العمليات بجرح مفتوح: يتحرك، يتكلم، لكنه ينزف داخلياً دون أن يدري. الحرب لم تنهِ الانقسام، عمّقته. لم تصنع النضج، فقط سمّمت الغريزة. لم تحول الخراب إلى حافز للشفاء، لكنها جعلت منه مادة أولية لحروب مؤجلة.
في المجتمعات التي تنجو شكلياً من الكارثة دون أن تواجه قبحها، يصبح الماضي مجرد فخ. كل جريمة غير مُعترف بها تتحول إلى قنبلة زمنية. السوريون الذين عاشوا المجازر وشهدوا الانشقاقات والانهيارات لم يجدوا وقتاً للسؤال: ماذا فعلنا؟ وجدوا وقتاً أطول لإعادة ترتيب الحقد، لإعادة كتابة قوائم الخصوم. المنتصر في الحرب لا يتعلم عبث الحرب إلا إذا سمح لنفسه أن يسمّي الجريمة باسمها الحقيقي. وعندما لا يفعل، عندما يهرب إلى مؤامرة أو شيطان خارجي أو الآخر المختلف، يحتفظ بحربه حيّة وجاهزة للاستخدام.
السلطة الجديدة، التي خرجت من رماد الانهيار، لم تكن نقيضاً للسلطة القديمة. كانت نسختها المصقولة، بوجوه أحدث، وخطابات أكثر نعومة، لكن بجوهر لم يتغير: لا وطن في الحسابات، فقط مادة خام لإدارة الخراب تحت السيطرة. منذ أسبوع فقط، وقف الرئيس السوري أحمد الشرع، ليحذر أن استمرار الفوضى لن يقتصر ضرره على دول الجوار، بل سيمتد إلى العالم كله. تحذير لا يشبه صرخة استغاثة، كان أقرب إلى تلويح خفي بسلاح الفوضى، كمن يساوم على حطام وطن. سلطة لا تريد إطفاء الحريق، تريد فقط ضمان اشتعاله تحت سقف يمكنها التحكم به. تقدّم السلطة الجديدة للعالم واجهة مصقولة: سوريا تبحث عن استقرار، عن مصالحة، عن تجديد. في الداخل، تواصل زرع الكراهية على الأرصفة، تترك التحريض ينمو مثل العفن على جدران البيوت المهجورة، تراقب الدعوات للقتل الجماعي بصمت محايد، كأن الفتنة ليست خطراً وإنما سياسة.
حين خرج تسجيل ملفق من حثالات الأجهزة التي اعتادت تصنيع الفتن كما تصنع القوانين، لم يبحث أحد عن الحقيقة. لم يُطلب تحقيق، لم يُطرح سؤال. الجموع خرجت لا لتسأل، خرجت لتفرغ ما كان يثقل صدرها منذ أعوام: أن الفتنة لم تكن جرحاً عارضاً، هي عضو من جسد الوعي الجمعي. أن الكراهية لم تكن نزوة، إنها الغريزة الأصلية التي أعيد تنشيطها بأبسط إشارة. الخطر الحقيقي لم يعد في الكلمات المتطرفة التي تُقال، ولكن في استقبالها كتعريف جديد للهوية. عندما يصبح التهديد بالقتل والإبادة جزءاً من الحس الشعبي، عندما يتحول التحريض إلى خبز يومي يتقاسمه الشارع، عندها لا تحتاج الحرب إلى عدو خارجي لتبدأ. يكفيك مجتمع يعيش على جراحه كما يعيش الجائع على قشرة خبز بائسة.
لا أحد يندهش اليوم من فكرة الدعوة لإبادة جماعة كاملة بسبب كلمة. لا أحد يتوقف ليسأل: كيف وصلنا إلى هنا؟ لا أحد يسأل أين ذهبت الدولة، ولماذا تصطف الأجهزة الأمنية على الرصيف، تراقب المذابح الصغيرة تتشكل بهدوء. لأن الجميع يعرف الإجابة، لأن الجميع شريك، بطريقة أو بأخرى، في الجريمة التي تتكرر كلما احتاج المجتمع إلى إثبات عجزه عن العيش مع نفسه. الدولة الجديدة، مثلها مثل القديمة، لا تخشى الفتنة، تراها أداة لإطالة عمر الخراب تحت سيطرتها. تؤمن أن الغضب الطائفي يؤجل أي حديث عن العدالة أو المحاسبة. الصمت عن التحريض ليس ضعفاً، هو خطة مكتملة الأركان: اقتتلوا كما شئتم، فقط لا ترفعوا رؤوسكم إلى فوق نحو القصر.
لكن الخطر لم يعد يأتي من فوق، الخطر اليوم يأتي من تحت. من مجتمعٍ لم يعد يحتاج إلى من يقوده إلى الكراهية، فهو يسير إليها بغريزة مشوهة. من مجتمعٍ تعلم أن الولاء أغلى من الحقيقة، أن الطائفة أوسع من الوطن، أن القتل قابل للتبرير مادام الآخر هو الهدف. ما يحدث اليوم ليس أزمة أخلاقية، إنه الحصاد الطبيعي لكل ما زرعناه وتركناه ينمو بلا مساءلة. عندما تنتقل الكراهية من الشارع الإلكتروني إلى الشارع الواقعي، لا تعود مجرد حادثة، تصبح تاريخاً يُكتب من جديد، بحبر الدم.
الحرب الأهلية لا تبدأ بانفجار مدوٍّ. تبدأ بالهمسات، بالمجازر الصغيرة التي تمر بلا عقاب، بالخطب التي ترفع صوت الغضب فوق صوت العقل. تبدأ حين يصبح الدفاع عن رمز ديني تصريحاً مفتوحاً بإبادة جماعة كاملة. تبدأ حين يصير الدم حلاً لأي مشكلة في سردية الانتماء.
من يزرع الكراهية حقاً؟ هل من يصرخ باسم المزايدة الدينية، أم من يحمي مشروع الحرب القادمة بصمته المتواطئ؟ هل تستطيع سلطة لم تعرف العدالة يوماً إلا كرصاصة، أن توقف ما بدأته؟ وهل، حقاً، ما زالت سوريا موجودة لتنجو من كل هذا؟ أم أننا نشهد فقط الجولات الأولى في حرب لن يسأل فيها أحد عن البداية، ولن يجرؤ أحد على الحلم بالنهاية؟
في الحروب التي لا يتعلم منها أحد، لا أحد ينتصر. يموت الضحايا مرة واحدة، بينما يواصل القتلة حياتهم بين الأنقاض، منتظرين معركتهم القادمة. وفي المرة القادمة، قد لا يتبقى أحد ليسأل عن أصل الحكاية.