ليست “الأخبار” مجرّد تمثيل موضوعي للواقع، كما تفترض الرؤية التقليدية للتواصل الإعلامي. هي، وفق المنظور السوسيولوجي المعاصر، بنية رمزية مشحونة بالاختيارات والمعاني، تنشأ داخل الحقول المعرفية والسلطوية التي تنتجها وتستهلكها في آنٍ معاً. فالخبر هو انعكاس لعلاقات القوة، للتصنيفات الرمزية، ولآليات بناء المعنى التي تحكم الفضاء العمومي وتُعيد تشكيله باستمرار. من هذا المنطلق، يغدو توظيف النظريات الاجتماعية في مقاربة الخبر ضرورة منهجية لفهم اشتغاله كأداة لإنتاج المعنى، وليس كوسيلة لنقله فقط.
حين نتعامل مع المادة الإخبارية بوصفها “واقعة لسانية”، وفق ما يشير إليه إيرفينغ غوفمان في تحليله للتفاعلات الاجتماعية، فإننا نتحوّل من استقبال “الخبر” كمعطى إلى مساءلته كبنية. ذلك أن ما يُقال، وكيفية قوله، وما يُحذف، وما يُركّز عليه، كلها خيارات دلالية تمارس دوراً حاسماً في إنتاج التصنيفات الاجتماعية، وتوزيع المعنى داخل المجتمع. في هذا السياق، تصبح نظرية الهوية الاجتماعية، كما قدّمها هنري تاجفيل، مدخلاً تفسيرياً لفهم كيفية اشتغال الخبر كآلية لفرز الجماعات داخل حقول الإدراك العمومي، وتثبيت ثنائيات رمزية من قبيل: “نحن” مقابل “هم”، “المواطن” مقابل “الآخر”، أو “الشرعي” مقابل “المنحرف”.
الخبر، إذن، يُنتج شبكة من المعاني حول ما حدث، أي أنه يشتغل ضمن اقتصاد رمزي، بتعبير بيير بورديو، يعيد توزيع الرأسمال المعرفي بين الفاعلين الاجتماعيين، ويُساهم في إعادة إنتاج الهياكل السردية التي تؤسس لشرعية بعض الأصوات وتقمع أخرى. ومن هذا المنظور، فإن توظيف نظرية الجماعة المرجعية يتيح فهماً أعمق لكيفية استهلاك الجمهور للخبر بوصفه تأكيداً للانتماء. ذلك أن التلقي الإعلامي، في كثير من السياقات السياسية المشحونة، يخضع لمعايير التماهي الهوياتي، حيث يصبح الخبر “موثوقاً” فقط لأنه يتماشى مع سردية الجماعة، ويُرفض لأنه يهدد النظام الرمزي للجماعة المرجعية التي ينتمي إليها المتلقي.
أكثر من ذلك، فإن نظرية التأطير الإعلامي، كما صاغها روبرت إنتمن، تضيء لنا الأساليب التي يُعاد عبرها بناء الحدث ضمن شبكة من التمثيلات الموجّهة. فالخبر يُعاد إنتاجه ضمن إطارات تُضفي على الوقائع معاني مسبقة تُوجه تلقّيها. فالألفاظ، والصور، وتسلسل المعلومات، كلها ليست تفاصيل شكلية، وإنما أدوات إيديولوجية تُعيد بناء الواقع عبر منظور محدد. هكذا، لا يكتفي الخبر بتوصيل الوقائع، إنما يُنظم الإدراك العام وفق أولويات سردية معينة، تُخفي ما لا يتماشى مع خطاب السلطة الرمزية للمؤسسة الإعلامية، وتُبرز ما يخدم نظام التمثيل الذي تتبناه.
في هذا السياق، يصبح دور الصحفي المعاصر مشروطاً بوعيه بهذه الشبكة المعقدة من الرموز والتأويلات. فالخبر، حين يُنتج ويُستهلك داخل بيئة من الاستقطاب الثقافي والانقسام السياسي، يفقد ملامحه “الواقعية” لصالح تموضعات رمزية تؤسس لتصورات “انتقائية” للواقع. لذلك، فإن تحليل المادة الصحفية يستدعي مقاربات سوسيولوجية ولسانية وتأويلية تُعيد مساءلة البنية العميقة للنص الإعلامي، وتحلّل الخبر كحامل للمعلومة، و أيضاً كموقع لتشكّل الخطاب وهيمنة التصنيفات.
بهذا المعنى، يغدو الخبر، وفقاً لهذه المقاربات، فضاءً ديناميكياً تُنتج داخله التمثيلات الاجتماعية، وتُعاد فيه صياغة الذاكرة الجماعية، ويُعاد توزيع السلطة الرمزية داخل الفضاء العمومي. ولذا فإن إدماج النظريات الاجتماعية في فهم الخبر هو شرط لفهم الإعلام كمؤسسة فاعلة في صياغة المعنى الاجتماعي، وكموقع مركزي في إعادة هندسة التصورات الجماعية حول العالم، والهويات، والسلطة، والتاريخ.
إن ما نحن في أمسّ الحاجة إليه، مزيدٌ من الفهم حول كيف تُبنى الأخبار، ولمصلحة من، وبأية أدوات رمزية وسردية. وهذا الفهم لن يُنتج إلا عبر العدسة النقدية التي توفرها لنا السوسيولوجيا، بوصفها علم المعاني المُؤسسة للمجتمع.