سارية السواس والمواطنة المؤجلة: عن غياب العقد الاجتماعي في سوريا

ماذا يعني أن يحتاج شعبٌ إلى حنجرة امرأة ريفية، قادمة من أقصى الهامش، كي يتذكّر نفسه كجماعة؟ لا بوصفه كياناً سياسياً، ولا كحاملٍ لحقوق، وإنما فقط كمجموعة تنفعل وتتماهى وتذوب في صوت. ليس السؤال عن سارية، ولكم عمّن نكون نحن حين نلجأ إليها. عمّا يكشفه هذا الاحتياج العاطفي من خواء سياسي، ومن عجز جمعي عن إنتاج معنى لوجودنا يتجاوز الغريزة.

منذ أن تفككت بنية الدولة السورية، لم ينهض أي بديل سياسي، على العكس تَفتّق البديل من مكان آخر تماماً: الجسد. الجسد المُنهك، المُهان، الذي وجد في إيقاع سارية صوتاً يُشبهه أكثر من أي وثيقة دستورية. لكن الجسد لا يبني الشرعية. هو يرقص، يئن، يفرغ، لكنه لا ينتج حكماً ولا يسائل سلطة. هنا بالضبط تبدأ خيانة العاطفة. صوت سارية ليس رسالة سياسية، ولا احتجاجاً شعبياً. هو فضاء رمادي، عائم، مُعلّق، يصلح أن يكون مسرحاً لأي إسقاط جماعي، لكنه لا يحمل مضموناً بذاته. ولذلك، فهو يُستخدم، ويُستدعى كلما طَغى الخوف، كلما طافت الجثث إلى سطح الذاكرة. مثل منوّم صوتي، يُرخي الأعصاب ويخلق لحظة خادعة من الشعور بالانتماء.

لكن الانتماء الناتج عن الإيقاع لا يصمد، لا يورث، ومن غير الممكن أن يصير مؤسسة. هو علاقة زائلة، عابرة، تشبه الرعشة. وحين يتلاشى، تعود العزلة، ويعود معها الوعي الموجع بأننا لسنا شعباً، بل أفرادٌ يجمعهم توقيت الأغنية ويفرقهم أول اختلاف في الخطوة.

الرقص الجماعي، كما تصنعه حفلات سارية، يتجاوز ممارسة طقوسية اعتيادية، يتحول إلى انخراط غير واعٍ في نفي الفرد. كل جسد يرقص لكنه يتخلّى مؤقتاً عن أناه. وفي مجتمع قمعَ الفرد دائماً، يبدو هذا التخلّي جذّاباً: كنوع من الخلاص. لكنّه خلاص زائف. لأنه لا ينتج ذاتاً جديدة، بل يؤبّد الجماعة القطيعية. الجماعة التي تهتف ولا تناقش. التي تتمايل دون أن تحتج، والتي تتماهى مع الصوت، دون أن تحاسبه مهما كان نشازاً. وهذا بالضبط ما يجعل سارية لا تمثّل الهامش، لكنها تُعيد إنتاج مركز مقلوب: مركز شعبي، عاطفي، يُخفف عبء المأساة بالرقص حولها، عوضاً عن تفكيكها. وكأننا أمام دولة داخل الدولة، دولة لا تحتاج جيشاً أو شرطة أو دستور، لكنها تكتفي بالإيقاع. دولة وجدانية، غير مُعلنة، بالرغم من ذلك حقيقية بقدر ما هي مريحة. تَمنح المتعبين شيئاً يشبه الوطن دون أن تطالبهم بشيء. تسامح بلا عدالة، وتُصالح بلا ذاكرة.

وهذا بالضبط ما تحتاجه السلطة. لا نعني سلطة الأسد فقط، بل السلطة كفكرة في السياق السوري: كل سلطة تُفضّل المواطن الذي يرقص على ذلك الذي يُسائل. وكل نظام لا يجد غضاضة في دمج الصوت الشعبي في سرديته، طالما أنه صوت لا يُربك المشهد ولا يكشف الزيف. وسارية هنا ليست ضحية، وليست متواطئة. إنها انعكاس. صوت لم يُصنّع في غرف المخابرات، لكنه يتقاطع وظيفياً معها. فكما يُخدّر الأمن الفرد بالعنف، تُخدّره الأغنية بالانفعال. 

ولأن هذا النوع من التخدير لا يحتاج إلى قمع مباشر، بل إلى وسيط عاطفي مألوف، يتحول الصوت نفسه إلى أداة رعاية رمزية، تُهدّئ ولا تُحرّر، تربت على الكتف كي لا ترفع الرأس، وتهمس لنا بما نحب أن نسمع، لا بما ينبغي أن نواجه. السلطة لا تحتاج دائماً إلى سوط أو رصاصة، يكفيها لحن محفوظ وطبلة إيقاع. في علم النفس، هناك مفهوم “الموضوع الانتقالي” الذي طوّره وينيكوت: شيء يتشبث به الطفل لتخفيف قلق الانفصال، لعبة، بطانية، أو حتى صوت الأم. وظيفة مؤقتة تحمي الذات من الانهيار، وتؤجّل المواجهة مع الواقع. وفي المجتمع السوري، تحوّلت سارية إلى هذا “الشيء” الجمعي. حنجرة تُطَمئن جمهوراً مذعوراً، تُنقذ الذاكرة من فيضان الألم، وتمنح شعوراً زائفاً بالتماسك والسيطرة. لكن “الموضوع الانتقالي” لا يُبنى عليه وعي، ولا يُنتج مجتمعاً. هو مؤقت، وظيفي، وهشّ. يُعين على البقاء، لكنه يعجز عن خلق معنى للبقاء.

لكن حتى هذا الدور المؤقت، هذه الرعاية العاطفية المموّهة، لا تتم في فراغ. فهي تتطلب بنية حاضنة، فضاءً يسمح لها بالتحقق دون مساءلة. وهنا تحديداً تتجلّى وظيفة المكان، لا كمجرد مسرح، وإنما ككيان رمزي مستقل، يحمل شروط اللعبة ويُعلّق قوانين الواقع. وكما تحتاج النفس إلى وسيط يخفف قلقها، تحتاج الجماعة إلى فضاء يشرّع لهذا الوسيط بالوجود، دون أن يُربك النظام العام. الفضاء الذي تخلقه سارية ليس فضاءً عادياً. إنه، بمصطلح فوكو، “هيتروتوبيا”: مكان آخر داخل المكان، حيث القوانين العادية معلّقة. في حفلة سارية، يمكن للقاتل أن يرقص مع ضحيته، وللضحية أن تضحك مع جلادها. هذا نفيٌ مؤقتٌ للواقع، أو تعليق للعدالة. كأنّ الموسيقى تقول لنا: “لنحيا معاً… دون أن نعرف كيف أو لماذا أو بأي ثمن.”

وبالرغم من ذلك فالثمن فادح. لأن هذه “الهيتروتوبيا” لا تُخرجنا من الموت، تُعيد تشكيله كمشهد مألوف، كخلفية صوتية لا تُقاطع الرقص. لا تُوقف المجزرة، ولكنها تُضفي عليها طابعاً احتفالياً يُصالح الضحية مع قاتله، ويُخدّر الغضب كي لا يواجه النظام. تُلطّف الرعب ليس من باب الرحمة أبداً، لكن حتى لا نُجبر أنفسنا على اختراع بديل. فتُصبح الحنجرة التي تهتف “بس اسمع مني” امتداداً لنظام قمعي تغيّرَت أدواته: من الهراوة إلى الإيقاع، من المعتقل إلى السهرة، من التعذيب إلى التماهي العاطفي. 

حين تُعاد المجزرة إلى الواجهة كمشهد راقص، لا تنمحي وإنما تُعاد برمجتها وجدانياً. يصبح الانفعال الجماعي وسيلة لتعبئة الفراغ الذي خلّفته الحقيقة المغدورة، وغطاءً لصمت لم يُشفَ من الصدمة بعد. ليست هذه اللحظة لحظة نسيان، لكنها تعليق للوعي، تخلٍ مؤقت عن الذات المفكرة لصالح جسد يريد فقط أن يتحرّك، أن يشعر. والمفارقة المؤلمة أن من جرّب القمع هو الأكثر استعداداً للانخراط في هذا التعليق. فالقمع لا يقتل فقط الإرادة، لكنه يُصيب الجهاز العصبي نفسه بالعطب. يُعطّل الإحساس، يفصل الجسد عن المعنى. ولذا، حين تدور حلقة الدبكة، لا يعود الرقص مجرد حركة: يصبح استعادة فسيولوجية لحق مسلوب في الإحساس، أيّ إحساس، حتى لو لم يكن حقيقياً.

هنا السؤال لا يتعلق بلحظة الانفعال، بل بما يليها: ماذا يحدث حين تتحوّل هذه اللحظة إلى نظام شعوري دائم؟ حين يغدو التسكين شرطاً للقبول؟ حين تصبح الدبكة طقساً طارداً للوعي، والهتاف معياراً للانتماء؟ في هذه اللحظة، تفقد الجماعة قدرتها على التعدد، ويُعاد تعريف المواطن بوصفه “من لا يُربك المزاج العام”. عندها لا تعود سارية صوتاً عابراً، تتحوّل إلى بنية رمزية تؤسس لما يمكن تسميته بـ”جماعة ما بعد المطالب”، ما بعد الوجع، ما بعد السياسة. جماعة تُنتج طمأنينتها من نفي الحقيقة، وتصوغ هويتها من لحظة تعطيل الذاكرة، وتعيد تعريف الأمان بأنه التماهي مع إيقاع الأغلبية، عوضاً عن التفاوض أو الاشتباك معها.

وما يُكمل ملامح هذه البنية الرمزية هو أن سارية لا تجمع الناس باسم وعد أو قضية أو سردية كبرى، لكن باسم شيء أقل من ذلك بكثير: الإيقاع. الصدمة إذا ليست في قدرتها على الحشد، وإنما في أن هذا الحشد لا يتطلب خطاباً، ولا أيديولوجيا، ولا حتى لغة. كل ما يلزمه هو نبض متكرر يعلو فوق أنقاض المعنى. وكأن الجماعة السورية – في لحظتها الأشد هشاشة وتفككاً – لم تكن بحاجة إلى زعيم يُلهمها أو فكرة تُوحدها، لكنها تحتاج صوتاً يمنعها من الانهيار، من السقوط في هاوية الذات المفككة. لكن هذا الصوت، الذي يمنحنا التماسك اللحظي، لا يمنحنا الاتجاه. يُمسك بأيدينا كي لا نقع، لكنه لا يعلّمنا المشي. لأن من يرقص لا يسير، ومن يهتف لا يسائل، ومن يغرق في الإيقاع، لا يسمع الصمت الذي تفرضه السلطة بين كل ضربة طبل وأخرى.

والسلطة تفهم ذلك جيداً. تفهم أن أفضل الشعوب، في قاموسها، ليست تلك التي تصوغ المطالب أو تحتج أو تحاكم، وإنما تلك التي تفرغ غضبها في حفلة، وتحوّل القهر إلى إيقاع، والانتهاك إلى لازمة غنائية. شعوب لا تصرخ، بل “تدبك”. ولهذا، يُسمح لسارية بالغناء، وتُمنع المحاكمة من النُطق. يُفتح المسرح وتُغلق قاعة المحكمة. لأن الرقصة الأخيرة تُنسي، أما الاعتراف الأخير فيُدين. ولأن الخضوع المغنّى أكثر طواعية من الحقيقة، تختار السلطة الإيقاع، وتغلق أبواب العدالة بإحكام.. فالإيقاع يُخدّر، بينما العدالة توقظ، والسلطة لا تطيق الصحوة. 

فماذا يعني أن يحتاج شعبٌ إلى حنجرة امرأة ريفية، قادمة من أقصى الهامش، كي يتذكّر نفسه كجماعة؟ يعني أن هذا الشعب لم يُمنح الوقت ليصير شعباً فعلاً، قُطع عليه الطريق عند العاطفة الأولى، عند الهتاف الأول، عند رعشة الجسد الأولى. أن نحتاج سارية كي نتذكّر أنفسنا، فهذا لا يُدين سارية، لكنه يكشف فداحة ما جرى لنا: أن نُدفن ونحن أحياء، ونُبعث فقط حين يُنادى علينا بإيقاع مألوف. أن نُمنع من الحلم، ثم يُسمح لنا بالرقص. أن يُصادر خطابنا، ويُستبدل بأغنية شعبية. أن تصير الطمأنينة شعراً شعبياً، والهوية طبلة، والموت نشيداً قابلاً للرقص الجماعي. وهكذا، حين تخرج سارية إلى المسرح، لا تخرج وحدها. تخرج محمولة على صمتنا، على خوفنا، على جثثنا المؤجلة، على الوطن الذي ضاع بين حفلتين.

مقالات مشابهة