وما الذي يكشف طبيعة الدولة أكثر من الطريقة التي تتعامل بها مع موتاها؟ لماذا تُعاد مقتنيات جاسوس إلى الواجهة كأثر قومي، بينما لا تملك أم سورية حتى وثيقة تُثبت أن ابنها كان حياً يوماً ما؟ كيف تصبح الذاكرة رفاهية في وطنٍ تبتلع السجون أبناءه بلا أثر، وتُدار العدالة فيه كصفقة سياسية لا كمحاولة اعتراف؟ أي عدالة تلك التي تحفظ أرشيف الجاسوس وتترك أرشيف الضحية للنهب أو الإتلاف أو التجاهل؟ ومن يقرر، في الجمهورية الجديدة، من يستحق اسماً، ومن يُحذف من السردية؟
هنا لا نتحدث عن مفارقة، وإنما عن فضيحة أخلاقية مكتملة الأركان: دولة الاحتلال تُعيد أرشيف عميلها إيلي كوهين كرمز وطني، توثق مقتنياته، تُثمن أثره، وتقدمه لجمهورها كبطل. بينما نحن، بعد سقوط النظام، لا نملك حتى قائمة بأسماء من اختفوا في فروع الموت. لا سجل، لا ورقة، لا إشارة، فقط حفرة في الذاكرة وحفرة أعمق في وجدان البلاد.
منذ سقوط الطاغية، لم ندخل زمن الاعتراف، وإنما مرحلة توضيب الألم كملف سياسي. مرسوم العدالة لم يُصدر لاستعادة الوجع، فقط لتصنيفه. من لم يمت في سجون النظام “البائد”، يُستبعد من الرواية. من اختفى في معتقلات داعش، من ذاب تحت تعذيب النصرة، من ابتلعته سجون الفصائل، لا لجنة تذكره، ولا مرسوم يعترف به، ولا اسم له في دفاتر الدولة الجديدة.
هكذا تُصنع الرواية الرسمية: من يموت في المساحة المريحة من التاريخ يُستعاد، من يموت خارجها يُمحى.
لكن المشهد الذي يكشف كل شيء لم تأتِ به دمشق، ولا باريس، بل تل أبيب. وثائق الجاسوس، رجلهم في سوريا، تُعاد بدقة أرشيفية. المخابرات تحترم عميلها، تحفظ مقتنياته ولا تتركها للنهب. أما في دمشق، ففروع الأمن تحوّلت إلى سجون جديدة، دون حتى أن تُجمع أوراقها. في كل وثيقة مهملة، اسم مفقود. في كل درج محطّم، احتمال قبر. لكن لا أحد يكترث.
العدالة عندنا تبدأ عندما تُصدرها السلطة، وتنتهي عندما تُعرض في مؤتمر صحفي. لا مسح جنائي لفروع الموت، لأنها لم تُعتبر يوماً مسارح جريمة. لا جمع لأدلة، لأن الأدلة تهدد السردية الرسمية. لا حماية للأرشيف، لأنه لم يُنظر إليه يوماً كذاكرة وطن، وإنما كعبء يجب طمسه.
أسوأ ما في المرسوم رقم 20 لعام 2025، أنه كُتب بلغة المُنتصر، وليس بلغة الشعب. سلطة انتقالية تستأنف لغة التهميش والإقصاء ذاتها، ولكن بمفردات جديدة: “الانتهاكات التي تسبب بها النظام البائد”. هكذا يُغلق الباب منذ السطر الأول على الضحايا الآخرين. يُستبعد من فقد ابنه في سجون النصرة، أو من ذاب أخوه في زنازين داعش، أو من اختطف والده عند معبر يسيطر عليه أمراء الحرب. كل هؤلاء بلا لغة قانونية، بلا أهلية للاعتراف.
وفي المقابل، تُفتح ملفات الجواسيس بكرامة. يتم نقل الوثائق، استعراضها، تثمينها. فجأة، تصبح الذاكرة أرشيفاً قابلاً للعرض، لأن صاحبها لم يكن سورياً، ولم يكن ضحية. أما نحن، الذين لا نملك أرشيفاً، نحمل أسماءنا في صدورنا. لا نحفظ صورنا في متاحف، وإنما نرثها في وجوه الأمهات، وفي حكايات تتناقلها البيوت. نحن الذاكرة التي لا تحتاج تصريحاً، والضحايا الذين لم يطلبوا أكثر من اعتراف.
السؤال ليس في المساواة، لكن في المعايير. لماذا يُستعاد العميل بوثائقه وتُرمم له سيرته، بينما يُمحى المدافع عن وطنه من الذاكرة كأن وجوده كان خطأ؟ لماذا لا تُجمع أوراق أبنائنا، لا تُفتح لهم الملفات، لا يُوثق غيابهم، ولا يُعترف بعائلاتهم كأطراف في السردية الوطنية؟ من قرر أن الوجع يُقاس بالتحالفات، وأن الفقد يُصنّف بحسب الزاوية التي مات فيها صاحبه؟ من حوّل المفقودين إلى فائض بشري، لا يناسب رواية النظام القديم ولا رغبات السلطة الجديدة؟ من فرض على الذاكرة أن تكون انتقائية، وعلى الدولة أن تتذكّر من يناسبها فقط؟
الدولة لا تُقاس فقط بالمراسيم، لكن بما تصمت عنه. وما تصمت عنه هذه السلطة هو أصل المأساة. ترفض النظر في وجوه الأمهات اللواتي ينتظرن خبراً. ترفض فتح السجون التي أعيد استخدامها دون تنظيف، دون توثيق، دون أي محاولة للحفاظ على ما تبقى من أثر.
الأسوأ أن بعض هذه الفروع صار يُستخدم كسجن جديد، كأن الماضي لم يكن. تُدار أماكن الجريمة كأنها لم تكن مسرحاً لتعذيب عشرات الآلاف. لا توجد عملية استعادة للحق، لا اعتراف بالذاكرة، فقط إعادة تشغيل. وهكذا، تُطمَس الأدلة، وتُمحى أسماء الشهداء، وتُستأنف الدورة بلا خجل. في حلب، فجر مبنى المخابرات الجوية دون أن يُفتح تحقيق أو يُعلن عن مصير الملفات داخله. في دمشق، تُدهن جدران الأفرع الأمنية بالألوان كأنها لم تكن يوماً غرفاً للموت. في صيدنايا، يُحوّل الموقع إلى مسرح للعراضات والاحتفالات “الوطنية”، بينما تُعاد مراكز أمنية للعمل في محافظات أخرى وكأن شيئاً لم يكن. لا ذاكرة، لا عدالة، فقط استئناف للاستبداد بهيئة جديدة، تتعامل مع المأساة كمجرد مرحلة لوجستية يجب تجاوزها.
منذ الأيام الأولى لسقوط النظام، كانت الرسالة واضحة: لا وقت للذاكرة، ولا وقت للمحاسبة. المطلوب هو الاستقرار، بأقل تكلفة سياسية. ومن يريد أكثر من ذلك، يُتهم بتخريب المرحلة، أو بتعكير صفو المصالحة. لكن أي مصالحة هذه التي تُبنى على الإنكار؟ وأي استقرار هذا الذي يُطلب من الناس أن يصمتوا على جثثهم من أجله؟ العدالة التي لا تبدأ من سؤال المفقودين، ليست عدالة. هي استثمار سياسي في الدم، وتبييض أخلاقي لجريمة متواصلة.
في الوقت الذي كان فيه رئيس وزراء الاحتلال ينشر صور الوثائق المنقولة إلى تل أبيب، كانت آلاف الأمهات في سوريا يسألن أنفسهن: هل وُجد في هذا العالم من يحترم كرامة ميتٍ أكثر منّا؟ هل بات الجاسوس يحظى بأرشيف وطني، بينما أبناؤنا لا يُذكر لهم اسم ولا تُسجّل لهم ميتة؟ هل صارت ذاكرة الجواسيس أوضح من ذاكرة الوطن نفسه؟ وهل العدالة، كما تُدار في دمشق الجديدة، لا تعترف بالمفقود إلا إن وافق خطّ الخطاب السائد؟ كيف يمكن لدولة تدّعي القطيعة مع الاستبداد أن تعيد إنتاج آلياته في صلب أكثر ملفاته وجعاً؟ وكيف لمن يتحدث عن المصالحة أن يبدأها بإنكار من لم يمت في الزاوية الصحيحة من التاريخ؟
منذ أن اختُزلت العدالة الانتقالية إلى مرسوم إداري، صار واضحاً أن السلطة لا تبحث عن إنصاف، فقط عن صكوك شرعية. العدالة تحولت إلى ديكور ديمقراطي في صالة سياسية. ولا أحد يريد فتح الدفاتر، لأنها ملوثة. لا أحد يريد إعادة فحص الفروع الأمنية، لأنها لا تزال جزءاً من الآلة. ولا أحد يريد تعريف الخيانة، لأن ذلك يفرض عليهم أن يسمّوا القاتل باسمه. هذه ليست مبالغة، هذه بنية سلطوية مستمرة. الاستبداد لا يُقاس بالشعارات، ولكن بكيفية التعامل مع المفقودين. حين يصبح القاتل موظفاً، ويُطلب من أهالي الضحايا أن يتفهّموا، فاعلم أن النظام لم يسقط، فقط بدّل بدلته. ما نراه اليوم ليس فشلاً في العدالة، إنما إلغاء لها من الأساس. تحويلها إلى أداة ضبط، إلى مسكن سياسي، إلى هندسة جديدة للذاكرة الجمعية تُشبه بالضبط ما فعله النظام القديم: إخفاء، صمت، نفي، وإعادة سرد.
أما نحن، فلا يكفينا أن نعدّ الأسماء أو نُطالب باللجان. نحن معنيّون بسؤال الجذر: ما شكل الدولة التي تُقام على صمت المفقودين؟ ما معنى نظام جديد يصوغ شرعيته فوق قبور مجهولة، وينتقي ضحاياه كما تنتقي الأنظمة أعداءها؟ لسنا بحاجة إلى سردية جديدة تُجمّل وجه السلطة، وإنما بحاجة إلى سردية تعترف بكل ما أُهمل وتواطأ عليه. عدالة لا تُكتب في مكاتب الاستشارة السياسية، لكن تُنتزع من ركام فروع الموت. عدالة تبدأ من الاعتراف لا من التجميل، ومن القبر لا من قصر الحكم. عدالة لا تُساوي بين الضحية والجلاد، لكنها لا تمحو أي ضحية، ولا تحتكر الألم.
لا تُبنى الأوطان على الإنكار، ولا تُؤسس الدول على طمس القبور. الحديث عن المستقبل بلا حديث عن المقابر، محض خيانة. أي عقد سياسي لا يبدأ من أسماء الشهداء هو عقد زائف. وأي سلطة تطلب من المجتمع أن يصمت على موتاه، لن تسمح له يوماً أن ينطق بحقه. المجتمع الذي يُمنَع من البكاء، يُمنَع من الحياة. والذي لا يُكتب له أن يذكر أسماء ضحاياه، لن يُكتب له وطن.
لهذا كله، نقول: ليس في الأمر مقارنة، وإنما كشف. والمقارنة الوحيدة التي تُفترض هنا، هي بين دولة تُخفي جثثها، وأخرى تحتفي حتى بجواسيسها. بين سلطة تريد طي الذاكرة، وأخرى تستثمر في كل وثيقة، لأنها تدرك أنها تُنتج سرديتها من خلال الأرشيف. وبين شعب يبحث عن خبر، وصورة، واسماً، وبين مؤسسة ترفض حتى الاعتراف بأنه فقد أحداً. هذه ليست عدالة، هذا استمرار للإنكار. والتاريخ لا يغفر للذين حاولوا طمس الجريمة بمراسيم فارغة.
وإلى أن تُفتح السجون القديمة أمام العدسة، وتُستعاد الرفات أمام العلن، ستبقى الدولة الجديدة مجرد مشروع مموّه، لا يسمع سوى صوته، ولا يرى في ذاكرة الناس إلا تهديداً. في حين أن ما يهدد الدولة فعلاً، هو طمس هذه الذاكرة.
العدالة ليست موسماً، هي بنية. ومن لم يُبنِ عدالته من دم الناس، سيبنيها فوق ركامهم. لكن الركام لا يُباع مرتين. ولا يُحكم الناس مرتين بذات القسوة.