الركام لا يُباع مرتين: دولة تُدار على أنقاض كرامتها

لا شيء يفضح خواء السلطة أكثر من لحظة التحول الخطابي. الذين بنوا هيبتهم على لعن التدخل الأجنبي، صاروا اليوم يهرولون خلفه كموظفين صغار ينتظرون تقييم الأداء. من كانوا يهددون أمريكا، يقفون على باب مكتبها بملفاتهم المصنفة، مترقبين تعليق العقوبات كما ينتظر طالب مهدد بالطرد نتائج امتحانه الأخير.

هذه ليست صفقة، ولا فرصة تاريخية، هذه لحظة عري سياسي كامل: سلطة تخلع قناعها دون أن تنتبه، وتطلب الشهادة من ذات القوة التي شيطنتها لسنوات. ومن كان يفاخر برفض التطبيع، صار يناور عليه بلغة أكثر نفاقاً: “حين تستقر الأمور”، “ضمن رؤية إقليمية شاملة”، إلى آخر قائمة الجمل المعلبة التي لا تحمي أحداً من الحقيقة.

الحقيقة: السلطة الجديدة لا تبحث عن استقلال، فقط عن شرعية معلبة يمكن تقديمها للمجتمع الدولي مقابل صمت داخلي متوقع. لا تملك مشروع حكم، فقط مشروع بقاء. لذلك تبدو شروط أمريكا منطقية جداً: حكومة غير إقصائية، تمثيل للكرد، محاسبة على المجازر. من لا يملك شرعية داخلية، لا يمكنه رفض الشروط الخارجية.

الأكثر فضائحية أن هذه الشروط نفسها كانت مطالب قوى معارضة كحكمت الهجري وقوى الشمال الشرقي. ما قوبل بالتخوين والشيطنة، صار اليوم مادة تفاوض مع تل أبيب وواشنطن. لم تتغير الشروط، فقط تغيّر مصدرها، وتبدلت لغة تقديمها. المشهد يُدار بلا مبادئ، فقط مصالح، ومن يحمل السكين يُملي اللغة.

ما يُعرض ليس تحولاً سياسياً، هو تَعرية كاملة للسلطة الجديدة التي لا تتعامل مع المطالب السياسية كحقوق، فقط كورقة تفاوض ظرفية، تُمنح حين تأتي من الخارج وتُقمع حين تصدر من الداخل. ليست المشكلة في قبول شروط كالتمثيل المتعدد، المشكلة في الطريقة: حين تُطرح داخلياً، تُقمع؛ وحين تفرضها قوى دولية، تُقدم على أنها حكمة ومرونة. لا مراجعة سياسية جادة، هي مراوغة براغماتية هدفها الحفاظ على السلطة لا إعادة بنائها.

منذ البداية، لم يكن في جعبة السلطة مشروع سياسي. فقط أدوات حكم مؤقتة: جهاز أمني، ذراع ديني، خطاب مموّه. كل من رفض هذا النموذج كان مشروع خطر. أما اليوم، وبعد أن انتهت اللعبة الداخلية، لا مانع من إعادة تدوير تلك المطالب، بشرط أن تأتي بلغة القوة.

هكذا تتضح وظيفة الغرب في المعادلة السورية: ليس حماية الحقوق، ولا دعم العدالة، وإنما احتواء الفوضى وتنظيم التوحّش بما لا يربك مصالحهم. الغرب لا يبحث عن ديمقراطية في سوريا، يريد سلطة قابلة للتفاهم، حتى لو خرجت من عباءة الجهادية السلفية، طالما أنها تضمن أمرين: أن لا تقلق حدود إسرائيل، ولا تطلق موجة لاجئين جديدة تهدد استقرار أوروبا. أي سلطة تحقق هذين الشرطين تصبح تلقائياً “شريكاً قابلاً للتطوير”، مهما كانت طبيعتها القمعية أو خطابها الإقصائي.

الحديث عن الشفافية والحوكمة مجرد لافتات تجميل تُستخدم في المؤتمرات. أما الشرعيات الفعلية فتُمنح للأنظمة التي تضبط الشارع وتُخمد الذاكرة. هذه ليست ازدواجية معايير، هذه سياسة غربية واضحة: تدبير العنف لا إلغاؤه، وإدارة الخراب لا إصلاحه.

أما الداخل، فليصمت أو يصفق أو يبحث عن لجوء في أي دولة تحترم الحياة. السلطة لا تملك لغة تفاهم مع شعبها، فقط مع الخارج. التعددية تعني توزيع أدوار داخل مسرحية مغلقة. حماية الأقليات تعني تحسين صورة الحكم في المؤتمرات الصحفية. المحاسبة مشروطة بالضغط الدولي، إن ضعف، تم دفن اللجان. إن زاد، نُشرت وثائق منقحة.

لم يكن الشيخ الهجري مخطئاً. فقط كان مبكراً على نظام لا يفهم السياسة إلا بوصفها امتيازاً. دعوته للشراكة رُفضت لا لأنها خطأ، لكن لأنها سبقت العرض الدولي. السلطة لا تُجيد التفاوض إلا حين تُجبر، ولا تقدم التنازلات إلا حين تُحاصر. ما طرحه الهجري كان خيانة حين قاله، وصار واقعية حين جاء في بريد واشنطن.

من يُعيد تعريف الخيانة اليوم؟ من كانوا بالأمس أول من باع. من يقرر أن الوطنية هي توقيت الخضوع لا توقيت الرفض. من يصنع قاموساً جديداً للدم، للذاكرة، للغضب. من يريد للناس أن تلعق ذلها وتصفق. اليوم، يُطلب من السوري أن يُعيد ابتلاع مشهد الرياض كما لو أنه لحظة انتصار. أن يبارك صفقات التطبيع، أن يصفق للجلاد حين يخلع بزته ويقول أنا مع العدالة الانتقالية، أنا مع حكومة لكل السوريين، أنا مع طرد المقاتلين الأجانب… وكأن من كان يُنكّل بالسوريين لأنهم قالوا هذا الكلام، هو نفسه المخلّص الآن. لا، هذا ليس خطاب دولة، هذا خطاب قطاع طرق. هذه ليست تسوية، هذا قضم جماعي للضمير. المطلوب منك أيها السوري أن تُخرس نفسك، أن تلغي تاريخك، أن تُعيد كتابة الماضي وفق الرواية الرسمية للمهزوم الذي لبس ثوب المنتصر.

لا شيء تغيّر. فقط الصوت صار أكثر وقاحة. القاتل يطلب منك أن تصدق أنه صار مدافعاً عن الحرية. من كان يشتمك لأنك طالبت بحكومة مدنية، يريد اليوم أن يقودها. من كان يُنكّل بالسوريين لأنهم رفضوا التطرف، يعلن أمام ترامب أنه يمقته. هذه المزرعة لا تريد مواطنين، تريد قطيعاً يعيد تمثيل مشاهد الانتصار على جثثه.  هذا تكرار أكثر إهانة لمسرحيات الانتصار القديمة، هذا هو الحضيض حين يتظاهر أنه ينتشل دولة من الركام.

الحقيقة أن السلطة تحكم بجثة خطابها السابق. تحاول ترميمه بإعلانات ومؤتمرات، لكنها لا تحكم فعلياً. لا في الحسكة، لا في السويداء، ولا في درعا. فقط في النقاط التي تسمح بها المصالح الدولية. سلطة متأرجحة بين قبول إسرائيل ورضا تركيا ومزاج واشنطن، وتقدّم نفسها كبديل ناعم لفوضى لا أحد يجرؤ على ضبطها.

الأسوأ أن من يصفق لها الآن لا يريد دولة. فقط يريد دوراً أو وظيفة أو موقعاً في الهيكل. لا أحد يتحدث عن محاسبة، الكل يتحدث عن “استقرار”، عن “فرصة” و”مرحلة جديدة” و”ضرورة التفهّم”. كلهم باعة يروجون لنظام بلا لغة، بلا قيمة، بلا مشروع أخلاقي.

لكن هناك من يرى السلطة على حقيقتها: شبكة مصالح تتقاطع مع الخارج حين يطلب، وتدوس الداخل حين يتنفس. تسوّق الشراكة، وتبني على الإقصاء. تدّعي العدالة، وتُقنّن الانتقام. تُخفي طغاتها، وتعرض موظفيها على الشاشات، وتظن أن المجتمع سينسى.

المجتمعات لا تنسى، حتى حين تُجبر على الصمت. الذاكرة الجماعية لا تُمحى بالتقادم، وتراكم الغدر يصنع الثورات القادمة. من لم يُحاسَب اليوم، لن يحكم غداً. كل تسوية فُرضت من فوق، دون عدالة من تحت، هي قنبلة مؤجلة. كل مجزرة لم يُسمح بذكرها ستُكتب بدم جديد. كل من تواطأ باسم الواقعية، وسوّق للتنازلات بوصفها دهاء سياسياً، ستتم محاكمته في وعي الناس، قبل أي عدالة مؤسسية.

التاريخ لا يترك فجوات مفتوحة. يجرّ كل من باع الكلام للداخل ووقّع الاتفاقيات مع الخارج إلى السطر الأخير من الرواية، حيث لا تنفع الابتسامات ولا البيانات الدبلوماسية. لا أحد يحكم دون ذاكرة، لا أحد ينجو من ذاكرة تُغتصب يومياً، لكنها لا تتخلى عن حقها في التوثيق. الذين يظنون أن العالم نسي حمص والساحل ودوما وتدمر، سيندهشون حين تُفتح الملفات، لا أمام قاض دولي، لكن أمام شعب يريد الاعتراف والمحاسبة.

وإلى أن تُغلق هذه السوق، سيبقى “بياع الوعود” عالقاً في دور من فقد لغته، يحاول إقناع الجميع أنه يملك سلطة على شيء. لكنه لا يبيع سوى ركام، والركام لا يُباع مرتين، ولا يُحكم شعب مرتين بذات الأكاذيب.

مقالات مشابهة