هل يمكن تبرير الشر إذا ارتدى هيئة نظامٍ أفضل؟ إيفان كارامازوف لم يكن يعترض على الله، لكنه اعترض على عدالةٍ تحتاج إلى دم طفل كي تثبت توازنها. تلك كانت جملته القاطعة، التي لا تُناقَش ولا تُفاضَل. من هنا يبدأ السؤال الحقيقي، لا من المقارنات، ولا من جداول الخسائر، ولا من بلاغة “الأخفّ سوءاً”. حنة أرندت، بعد قرن تقريباً، ستمنح هذا السؤال اسماً سياسياً: تفاهة الشر. ليس لأن الشر بسيط، ولكن لأنه يُمارَس بلا صراخ، بلا شيطان، وبلا شعور بالذنب. يُمارَس بوصفه وظيفة، إجراءً، ضرورةً لحماية نظام يُقال إنه أفضل من غيره. الشر هنا لا يُنكر العدالة، بقدر ما يعيد تعريفها على نحو يجعل الضحية شرطاً لاستمرارها.
من هذا الموضع ينبغي أن نقرأ عالمنا اليوم. ماذا لو كانت الديمقراطية التي نحتفي بها لا تعمل إلا حين تُسكت أصواتاً بعيدة، أو تُبرّر قصفاً لا يُرى، أو تقبل بأن يكون هناك من يُضحّى بهم كي يستمر “النظام”؟ ماذا لو تحوّلت الحرية من قيمة غير قابلة للمساس إلى امتيازٍ جغرافي، ومن حقّ إنساني إلى أداة مقارنة؟ حينها لا نكون أمام ديمقراطية ناقصة، وإنما أمام “خيانة” لمفهوم الديمقراطية نفسه. لأن العدالة التي تُقاس بغيرها، لا بذاتها، ليست عدالة. ولأن الحرية التي تحتاج إلى ضحية صامتة كي تستمر، ليست حرية.
هذا الوهم، وهم المقارنة، بات اليوم أحد أكثر أشكال العمى شيوعاً في الخطاب السياسي العربي والعالمي على السواء. لا يُقال إن سلطةً ما عادلة لأنها تحترم الإنسان، ولكن لأنها لا تشبه النظام الذي سبقها. ولا تُوصَف دولة بأنها ديمقراطية لأنها تحاسب نفسها، وإنما لأنها لا تشبه خصمها الجيوسياسي. يتم تحويل القيم من معايير غير قابلة للتجزئة إلى أعذار، ومن مبادئ إلى فروقات في الدرجة.
في سوريا، يُطلب من الناس اليوم أن يروا في السلطة الانتقالية مشروعاً ديمقراطياً، ليس لأنها أقامت دولة قانون، ولا لأنها أوقفت القتل، ولا حتى لأنها فتحت أفق العدالة، ولكن لأنها “ليست الأسد”. كأن المعيار الأقصى لأي حكم بعد عقود من الاستبداد هو ألّا يكون نسخة مطابقة عن الجلاد السابق. معيار يجعل التاريخ السوري، بكل ما راكمه من دم وتجربة وخسارة، ينتهي إلى هذا السقف المتدنّي من التوقعات. المقارنة هنا لا تُنقذ السياسة أبداً، فهي تقتلها.أي أنها تحول السؤال: ماذا تفعل هذه السلطة؟ إلى: عمّن تختلف؟ تغفل القيمة الأساسية “كيف تُعامل مواطنيها؟”، وتختزلها لتصبح “هل هي أسوأ أم أفضل من سابقتها؟” والنتيجة واحدة دائماً: تعليق المحاسبة، تأجيل النقد، وتخوين كل من يجرؤ على القول إن ما يحدث لا يليق باسم “تحرّر”.
هذا المنطق لا يقتصر على الحالة السورية. في الغرب المتحضر، تُمارَس اللعبة نفسها بوقاحة أكثر تهذيباً. تُقدَّم الأنظمة الليبرالية اليوم بوصفها حامية الحرية لأنها لا تشبه روسيا أو الصين، ليس لأنها تحترم حياة الإنسان حين تتعارض مع مصالحها. تُبرَّر الإبادة في غزة، وتشارك فيها، باسم “الدفاع عن القيم الديمقراطية”، بينما تُسحق هذه القيم ذاتها تحت الركام. وحين يُسأل السؤال الأخلاقي البسيط: كيف يمكن لدولة تدّعي الحرية أن تبرّر قتل عشرات آلاف المدنيين؟ يأتي الجواب دائماً من باب المقارنة: انظروا إلى غيرنا، نحن أقلّ شمولية، أقلّ قمعاً، أقلّ دموية.
لكن ماذا لو كان “الأقلّ” هذا هو المشكلة بعينها؟ الديمقراطية ليست ترتيباً على سلّم القمع، وليست المركز الثاني في مسابقة الاستبداد. كما أنها ليست نظاماً يُمدح لأنه يقتل أقلّ، أو يقمع بأدوات أنعم، أو يكذب بلغة أذكى. الديمقراطية، إن لم تكن قيمة مطلقة، تفقد معناها. والحرية، إن لم تكن غير قابلة للتجزئة، تصبح أداة قمع. حين نقبل بهذا المنطق المقارن، نكون قد تخلّينا عن جوهر الفكرة الديمقراطية نفسها. فالحرية التي تُقاس بغيرها، لا بذاتها، حرية قابلة للتفاوض. والكرامة التي تُعلَّق حين “تتعقّد الظروف”، تصبح مؤجلة إلى أجل غير مسمى. وبذلك يفقد الإنسان قيمته كـ “غاية السياسة”.
الأخطر من ذلك أن هذا الوهم يدرّب المجتمعات على قبول الانتهاك شرط أن يأتي من “جهتها”. يُقال لك: نعم، هناك قمع، لكن انظر إلى البديل. نعم، هناك قتل، لكن ليس بحجم ما كان. نعم، هناك مجازر، لكن لا تقارنها بما فعله النظام السابق. هكذا تُحوَّل الذاكرة إلى أداة ابتزاز، ويُستخدم الماضي لإعادة إنتاج العنف عوضاً عن تفكيكه.
في سوريا، تظهر هذه المفارقة بأوضح صورها. مجازر تُرتكب، في الساحل أو في السويداء، ثم يُطلب من الضحايا أن يتحلّوا “بالعقلانية”، وأن يدركوا أن المرحلة انتقالية، وأن لا يزايدوا على “إنجاز إسقاط الأسد”. يُعاد إنتاج لغة النظام القديم نفسها: التحقيق قادم، الملابسات معقّدة، الأخطاء فردية. الفارق الوحيد هو أن هذه اللغة باتت تُقال باسم الثورة، لا باسم الدولة الأمنية. وهنا بالضبط يكمن الانهيار الأخلاقي. حين تتحول الثورة من مشروع تحرّر إلى ذريعة لتعليق القيم التي قامت من أجلها، نكون أمام نسخة جديدة من الاستبداد، حتى لو ارتدت لغة مختلفة. فالسلطة التي لا تُحاسَب لأنها “أفضل من غيرها”، سلطة محصّنة ضد النقد، أي أنها سلطة استبدادية بحكم الأمر الواقع.
المقارنة لا تُنتج وعياً ولا تفتح أفقاً، على العكس فهي تخلق التبريرات وتغلق كل الأفق. وهي، في جوهرها، تقنية سلطوية قديمة: إقناع الناس بأن الأسوأ دائماً ممكن، كي يقبلوا بما هو قائم. أن يُقال لك: احمد ربك، كان يمكن أن يكون الوضع أسوأ. وكأن السياسة ليست فنّ تحسين شروط الحياة، بل إدارة الخوف من الأسوأ.
بهذا المعنى، فإن وهم المقارنة ليس خطأً تحليلياً فحسب، بل خيانة فكرية. خيانة لفكرة الديمقراطية كمعيار غير قابل للتفاضل. وخيانة لفكرة الحرية بوصفها حقاً لا يُمنح بالتدريج ولا يُقاس بالمحيط. وخيانة لفكرة العدالة التي لا معنى لها إن لم تشمل الجميع، وفي كل الظروف. لذلك يجب علينا التخلي عن كل هذه المقارنات والعودة إلى السؤال الجذري: هل هذا عادل؟ نعم أو لا. بلا مقارنة، بلا تدرج، بلا “أفضل من”. الديمقراطية إما أن تكون معياراً يُحاسب السلطة، أو ألا تكون. الحرية إما أن تكون حالة تُعاش، أو ألا تكون.
الديمقراطية ليست أن تكون أفضل من الأسد، ولا أن تكون أقلّ توحشاً من بوتين، ولا أن تبدو أكثر تهذيباً من الاحتلال. الديمقراطية هي أن لا تقتل حين تستطيع أن لا تقتل. أن لا تكذب حين لا حاجة للكذب. أن لا تبرّر الجريمة حين يكون الاعتراف بها شرط الخلاص. وحين نفقد الجرأة على قول ذلك، حين نستبدل المعيار بالمقارنة، نكون قد دخلنا مرحلة جديدة من الخراب: مرحلة يُدار فيها العنف باسم القيم، ويُسوَّق فيها القمع بوصفه واقعية، وتُطلب من الضحية دائماً فضيلة الصبر.
في الختام، ليس المطلوب إنكار أن الأنظمة تتفاوت في درجات قمعها، هذا واقع. لكن المطلوب رفض أن يكون هذا التفاوت حجة. المطلوب إعادة السؤال إلى صيغته المعيارية: من يقبل أن يُقاس بالأسوأ، يقبل أن يكون سيئاً. من يُبرر فعله بالمقارنة، يعترف بأنه لا يستطيع تبريره بالمعيار. من يقول “نحن لسنا الأسد” أو “نحن لسنا بوتين”، يقول ضمناً: هذا كل ما لدينا، أن لا نكون غيرنا.
لكن هذا لا يكفي، لم يكن يوماً كافياً، ولن يكون أبداً كافياً. لأنه حين نقبل بأقل من ذلك، نكون قد خسرنا المعركة قبل أن تبدأ.
