جمهورية التستوستيرون: سردية القوة في زمن الانهيار

حين تساءل ألبير كامو إن كان الانتحار يمثل حلاً عقلانياً أمام عبثية الوجود، فقد عنى ذلك العبث الوجودي الذي ينبع من افتقار العالم إلى معنى، في ظل غياب العدالة والإله والغاية. بيد أن لهذا السؤال، في السياق السوري المعاصر، تمظهراً آخر أكثر حسيّة وأقل تجريداً. في سوريا، لا تنبع الرغبة في الفناء من غياب المعنى فحسب، وإنما من تحوّل المعنى ذاته إلى أداة قمع رمزي، ووسيلة لإخضاع الذات لا لتحريرها. فكل ما هو ليّن، تساؤلي، تعددي، بات يُؤطّر كضعف ينبغي سحقه. وكل ما هو ناعم يُقابَل بالعنف، لا بوصفه نقيضه، لكن بوصفه مكمّلاً لازماً له في منظومة السلطة الرمزية. في ظل هذا التحول، يصبح الانتحار تعبيراً عن أزمة جماعية: كيف يمكن للذات أن تعيش حين يُعاد إنتاج الدولة كسلطة فوقيّة قائمة على فائض الذكورة العنيفة، لا على تعاقد اجتماعي عقلاني؟

ضمن هذه البنية، يُعاد تعريف السلطة بوصفها نظاماً يعيد إنتاج الرجولة لا كمُعطى بيولوجي، وإنما كمفهوم سيادي بديل. الرجولة هنا ليست تعبيراً عن هوية بقدر ما هي أداة هيمنة. كذلك الأمر هي ليست وصفاً نفسياً، لكنها بُنية حاكمة. الدولة التي تنبع من هذا المنطق لا تطلب من المواطن أن يشارك أو يفاوض، تطالبه بأن يخضع، وأن يُظهر خضوعه هذا بأداءات علنية: ضجيجٌ بدل منطق، حضورٌ جسدي يطلب الطاعة، لا الحوار. كأنّ الحكم لم يعد وظيفة، وإنما دور تمثيلي يؤديه الجسد والسلاح والصوت العالي.

هذا ما يُحوّل سؤال كامو من تساؤل ميتافيزيقي حول العبث إلى معضلة أنطولوجية حول طبيعة السلطة ذاتها. ففي اللحظة السورية الراهنة، لا ينبثق العبث من غياب المعنى، وإنما من إعادة تأسيس المعنى على فائض جسدي يتناسب عكسياً مع انحلال البنى المؤسسية. ثمة معادلة تكاد تكون رياضية في دقتها: كلما تآكلت الدولة كتجريد قانوني ومؤسساتي، تضخّم الجسد الذكوري كواقع مادي ورمزي. وكأن انهيار الميتافيزيقا السياسية يستدعي، بالضرورة، صعود طبيعة بديلة قوامها العضلة والصوت والحضور المادي الصارخ. الحدود التي كانت خطوطاً على الخرائط تُعاد صياغتها كخطوط عضلية، كملامح وجه متجهم، كنبرة صوت لا تقبل الجدل. نحن نشهد إعادة تعريف جذرية للسيادة ذاتها: من مفهوم مجرد يتعلق بالسيطرة على الأرض والموارد، إلى ممارسة حسية تتجلى في السيطرة على الأجساد والفضاءات.

اللحظة التأسيسية لهذه السيادة الجديدة لا تتطلب برلماناً يُشرّع أو محكمة تقضي، بل مشهداً مُصوّراً بعناية: جسد ذكوري يخترق الفضاء، يُعلن حضوره، يفرض إيقاعه. الكاميرا هنا جزء عضوي من آلية السيطرة. فالسيادة الجسدية، بخلاف نظيرتها المؤسسية، تحتاج إلى الصورة لتُثبت وجودها، إلى التكرار البصري لتُرسّخ شرعيتها. إنها سيادة أدائية بامتياز، تستمد قوتها من إعادة الإنتاج اليومي لطقوس الهيمنة الذكورية. وهكذا تُولد دولة من نوع جديد: دولة لا تحتاج إلى عقد اجتماعي وإنما إلى عرض عضلي متواصل. 

ما نشهده تجاوز حدود التحوّل في شكل السيادة، ليصبح انزلاق كامل نحو نمط سلطة لا يسعى إلى بناء نظام، وإنما إلى ترسيخ الخوف كبديل عن القانون. حيث لم نعد أمام “أب” يُؤسس السلطة بمنعٍ منظم كما عند فرويد، لكننا أمام نسخة مشوّهة، تستمد مشروعيتها من قدرتها على الهدم لا التأسيس، على التفكيك لا التنظيم. لم يعد الخارج موضوعاً للسيادة كما في النماذج التقليدية، بل صار الداخل ذاته – الجسد، الصوت، الانفعال – هو ساحة السيطرة الوحيدة المتبقية. السلطة هنا لا تحمي، ولا تُشرّع، ولا تُدير، لكنها تفرض سطوتها من خلال العنف العاري، كأننا أمام دولة بلا مؤسسات، تستبدل فكرة السيادة القانونية بشبح سلطوي لا يعرف حدوداً سوى مدى الخوف الذي يستطيع زرعه في وجدان الفرد.

اللافت أن السلطة في تجليها الجديد لا تحتاج إلى الإخفاء أو التمويه، تُمارس ذاتها عبر طقوس مكشوفة من الأداء الذكوري اليومي. الجسد المُسلّح يفرض حضوره، الصوت الآمر يُعيد توزيع الأدوار. الظهور الميداني ليس تفقداً، بل استعراض يُعيد إنتاج صورة السيّد في فضاء مُذعن. ما نشهده هو تحوّل الذكورة من صفة إلى منظومة، من هوية إلى أيديولوجيا، من ممارسة إلى مؤسسة. إنها الذكورة التي تتجاوز حاملها الفردي لتصبح بنية حاكمة تُعيد إنتاج ذاتها عبر آلاف الممارسات اليومية الصغيرة. وفي هذا التحول، يُعاد تشكيل الوعي الجمعي ليقبل، بل ليطلب، هذا الشكل من السلطة. المواطن الذي نشأ في ظل دولة المؤسسات – مهما كانت فاسدة أو قمعية – يجد نفسه الآن أمام واقع جديد: دولة بلا مؤسسات، سلطة بلا قانون، سيادة بلا حدود إلا حدود الجسد الذكوري وقدرته على فرض حضوره.

ما يستوقف فعلاً في ملامح هذه السلطة الجديدة أنها لا تُخفي وجهها، بل تتعمّد تعريته. تمارس هيمنتها كطقس يومي، أداء علني يعيد رسم صورة السيّد لا بالحكم، وإنما بالاستعراض. الصوت المرتفع، الجسد المسلّح، الحضور الميداني المتخشّب، كلها أدوات لإعادة تعريف السلطة بوصفها استعراضاً لا مضموناً. ومع الوقت، يتكيف الوعي العام مع هذه الصورة، لا يقبلها فقط لكنه يبحث عنها كمعيار للسيطرة، كأن غياب المعنى يُعوَّض بضجيج القوة، وكأننا نحتاج إلى جلاد مرئي كي نطمئن أن السلطة ما زالت تعمل.

في هذه الجمهورية المُشبعة بالتستوستيرون تكمن المفارقة في أن أخطر ما تُنتجه ليس العنف المباشر، لكن اقتصاد الخوف الذي تُديره بدقة مرَضية. خوف ليس من العقاب فحسب، بل من الوجود ذاته كذات مُفكرة، مُساءلة، مُختلفة. عندما تُصبح السيادة مرادفاً لغلظة الصوت، وعندما يُمنح الصراخ احتكاراً للحقيقة، فإن كل همسة تُصبح تمرداً، كل تساؤل تآمراً، كل صمت تأملي خيانة. النظام هنا لا يكتفي بقمع المعارضة، لكنه يُعيد تعريف الوجود الإنساني ذاته: الإنسان الصالح هو الذي يصرخ مع الجوقة، الذي يُحوّل عقله إلى مكبّر صوت، الذي يستبدل التفكير بالتكرار. اللافت أن هذه البنية الذكورية المُتضخمة لا تخشى أعداءها التقليديين – المؤامرات، الانقلابات، الثورات المُسلحة – بقدر ما تخشى من لحظة واحدة من الصدق. لحظة الاعتراف بأن كل هذا الصخب ما هو إلا محاولة يائسة لملء فراغ هائل. الرجل المُضخّم رمزياً، والذي يحتل كل الفضاءات بجسده وصوته، يُدرك في قرارة وعيه أنه تضخُّم كاذب، نفخة في بالون قد ينفجر عند أول وخزة حقيقية. شرعيته ليست مُستمدة من إنجاز أو رؤية أو حتى قوة حقيقية، وإنما من حاجة جماعية مرَضية للوهم، لتصديق أن هناك “رجلاً قوياً” يُمسك بزمام الأمور في عالم انفرط عقده تماماً.

لذلك، فإن استراتيجية البقاء لهذا النظام تقوم على احتكار مُطلق للمجال العام، ليس كفضاء فيزيائي فحسب، وإنما كفضاء رمزي وصوتي وبصري. كل صوت يجب أن يمر عبر مُرشّحات الذكورة المُهيمنة، كل صورة يجب أن تُعيد إنتاج أيقونة الرجل القوي، كل حضور يجب أن يخضع لكوريغرافيا السيطرة. والمرأة، بصوتها المُختلف نوعياً، بأسئلتها التي تنبع من موقع آخر، بمنطقها الذي لا يخضع لثنائية القوة/الضعف – تُشكّل الخطر الأكبر على هذا النظام المحكم. سؤال بسيط من امرأة  “وبعدين؟”  يحمل في طياته كل ما يرعب هذه المنظومة. إنه سؤال الزمن الذي تحاول الذكورة المُتضخمة إيقافه، سؤال المستقبل الذي تريد تجميده في لحظة السيطرة الآنية، سؤال المعنى الذي يكشف خواء الصخب. المرأة هنا ليست مجرد صوت مُعارض، هي تجسيد لمنطق آخر كلياً: منطق الحياة مقابل منطق السيطرة، منطق التدفق مقابل منطق التجمد، منطق السؤال مقابل منطق الجواب الواحد الأوحد.

ليس الإقصاء الصريح أكثر ما يُهين النساء، وإنما ذلك الإدماج المشروط الذي يُفرغ وجودهن من المعنى. تُستدعى المرأة إلى الواجهة لا بصفتها ذاتاً، لكن كواجهة. كائن تم تجهيزه ليقول ما لا يعنيه، ويبتسم حيث يجب أن يُقلق. يُعاد إنتاجها كأداة تزيينية تُطمئن النظام إلى حداثته، وإلى قدرته على احتواء المختلف بعد تفريغه من اختلافه. هذا شكل متأخر من العنف، لا يصفع الوجه لكن يمسح عليه بلطف مخادع. نسوية بلا نساء، تمثيل بلا تمثيل، سلطة تتكلم بأصواتهن بينما تُصادر لغتهن.

في المقابل، يظل حضور المرأة ممكناً كفعل اشتباك، لا كقبول باللعبة. حضور يعي حدوده، ويناور داخله. لا بطولة هنا، بل صراع صامت لإبقاء شيء من الذات حياً في فضاء يطلب المحو. هذا الحضور لا يصنع معجزات، لكنه يفتح هوامش ضيقة للتنفس. لا يتوهّم القدرة على التغيير الجذري، لكنه لا يستسلم أيضاً للتمثيل المريح. نسوية تعرف هشاشتها، لكنها لا تتنازل عنها. تسكن الشك، لا الخطاب. وتحاول أن تقول، قدر الإمكان، شيئاً لا يشبه صوت السلطة، حتى لو بدا خافتاً.

ما لم نواجه هذه المنظومة في عمقها – بوصفها ثقافة، لا فقط نظام حكم – فلن نخرج من عباءة المستبد، سنبقى نبدل شكله فقط. ليست المشكلة في الأسد، وإنما في الأسديّة التي تُعاد إنتاجها في كل زعيم، في كل أمير، في كل رجل يتحدث باسم الوطن كأنه يملكه. ولعل أول الثورة تبدأ حين يسأل الفرد نفسه: من أنا دون هذا الضجيج؟ وهل أستطيع أن أكون حراً دون أن أحتاج إلى رجل قوي كي يحميني من نفسي؟

وهنا نصل إلى اللحظة الكاشفة: عندما تنظر هذه الجمهورية في المرآة وتكتشف أن انعكاسها امرأة. ليست أي امرأة، بل تلك التي حملت عبء تاريخ كامل من الإقصاء والإسكات والتهميش. المرأة التي ليست “الآخر” فحسب، هي الشاهد الذي يحمل في جسده وذاكرته كل أكاذيب النظام. في تلك اللحظة، لا تنهار الصورة فحسب، ينهار النظام الرمزي بأكمله الذي بُني عليه صرح الذكورة المُهيمنة. لأن المرآة/المرأة لا تعكس فقط، وإنما تسأل: من منح هذا المسرح لممثل واحد؟ من كتب النص الذي يُردده الجميع؟ من قرر أن الصوت الأعلى هو الأصدق؟ ومن الذي يخاف من الصمت؟ أسئلة لا تطلب أجوبة بقدر ما تطلب تفكيك المسرح ذاته، إعادة النظر في أُسسه، ربما – وهذا هو الأخطر – الاعتراف بأنه مجرد مسرح.

مقالات مشابهة