عن وهم المواطنة في سوريا الممزقة

نبدأ من نهاية القصة: لم يعد هناك سوريون بالمعنى السياسي للكلمة. هناك سكان مناطق، رعايا سلطات، ضحايا جغرافيات. هناك من يحمل الجواز السوري كوثيقة سفر لا كهوية، ومن يحمل بطاقة شخصية صادرة عن سلطة لا تعترف بها سلطة أخرى على بعد كيلومترات. هذا ليس تشاؤماً، بل توصيف لواقع تجاوز كل التصورات الكلاسيكية عن الدولة والمواطنة والعقد الاجتماعي. ما نعيشه في سوريا اليوم لايمكن توصيفه “بأزمة دولة” أو “حرب أهلية”، هذه تسميات تفترض وجود كيان مُسبق يمر بأزمة. ما نعيشه هو انفراط في شروط الاجتماع السياسي ذاته، تفكك في البُنى الأساسية التي تجعل من مجموعة بشرية “شعباً” ومن رقعة جغرافية “وطناً”. نحن أمام حالة نادرة في التاريخ المعاصر: بلد يتفكك ليس إلى دول، بل إلى ما هو أدنى من الدولة، كانتونات سلطوية، جُزر سيادية، أقاليم خوف.

الحديث عن المواطنة في سوريا اليوم يشبه الحديث عن واحات وينابيع الماء في الصحراء، استحضار لغياب أكثر منه وصف لحضور. لكن المفارقة أن هذا الغياب ليس جديداً. المواطنة السورية، حتى في أفضل لحظاتها، كانت مواطنة منقوصة، مشروطة، خاضعة لمنطق السلطة لا منطق الحق. ما فعلته الحرب أنها كشفت هذا النقص، عرّته، حوّلته من مواطنة منقوصة إلى لا-مواطنة صريحة. فاليوم، في كل رقعة من الرقع السورية، تُصاغ “مواطنة” خاصة. في مناطق النظام السابق التي تحكمها اليوم المعارضة المسلحة، تبدّلت الوجوه لكن آليات الخضوع بقيت. المواطن الذي كان يُثبت ولاءه للأسد بالأمس، صار اليوم يُثبت ولاءه للسلطة الجديدة بطقوس مختلفة لكن الجوهر واحد: إظهار التديّن المطلوب، الانتماء للجماعة “الصحيحة”، قبول سلطة السلاح الجديد. الفرق أن صور الرئيس استُبدلت بشعارات دينية، وأن البعث استُبدل بخطاب إسلامي، لكن منطق “أثبت ولاءك أو ارحل” بقي سيد الموقف. في مناطق الإدارة الذاتية، المواطن هو من يتبنّى الخطاب الجديد عن “الأمة الديمقراطية” و”التآخي”، من يُعيد تعريف نفسه وفق القاموس الجديد.

كل هذه “المواطنات” ليست مواطنات بالمعنى الحديث، علاقة حقوقية بين فرد حر ودولة قانون، وإنما أشكال من الخضوع المُقنّع، صفقات بقاء في اقتصاد العنف. المواطن الحقيقي، إن وُجد، هو من يرفض كل هذه الصيغ، وبرفضه يصير لا-مواطناً، منفياً في وطنه، غريباً بين “مواطنيه”.

في هذا الفضاء المفرّغ من المواطنة الحقيقية، يصبح الحديث عن عقد اجتماعي أقرب إلى التمرين الذهني منه إلى الإمكانية السياسية. العقد الاجتماعي، بتعريفه الكلاسيكي، يفترض أطرافاً متكافئة نسبياً، تتنازل عن جزء من حريتها مقابل الأمن والنظام. في سوريا، لم يعد هناك أطراف ولا تكافؤ ولا حرية لنتنازل عنها. ما هو موجود علاقات قوة عارية، حيث القوي يفرض والضعيف يخضع أو يموت. التحوّل الأساسي هنا من منطق الحقوق إلى منطق الحماية. المواطن السوري لم يعد يطالب بحقه في التعليم أو الصحة أو العمل، هذه ترفيات زمن آخر. ما يطلبه اليوم بسيط ووحشي: ألا يُقتل، ألا يُعتقل، ألا يُجوّع. والسلطة، أي سلطة، تعرف هذا وتستثمر فيه. هي لا تعد بالحقوق بل بالحماية، من عدو حقيقي أو متخيّل، من الآخر الطائفي، من الفوضى، من المجهول.

هذا يخلق ما يمكن تسميته “عقد الابتزاز المتبادل”. السلطة تقول: أحميك مقابل خضوعك المطلق. والمواطن، المُنهك من سنوات الحرب، يقبل الصفقة. لكنها صفقة هشة، قابلة للنقض في أي لحظة. السلطة قد تتخلى عن “حمايتها” إذا وجدت مصلحة في ذلك، والمواطن قد يتمرد إذا وجد حامياً أقوى أو إذا فاق الخضوع قدرته على الاحتمال.

لكن حتى هذا “العقد” الهش لا يُبرم في فراغ. شروطه وطبيعته تتحدد بجغرافيا أصبحت أكثر من مجرد مكان، صارت هوية وقدراً. “من أين أنت؟” سؤال بسيط في الظاهر، قاتل في سوريا اليوم. الإجابة لا تحدد فقط مكان ولادتك، وإنما هويتك السياسية، انتماءك الطائفي المُفترض، موقفك من الصراع، بل وأحياناً مصيرك. الجغرافيا تحولت من إطار محايد للحياة إلى محدد أساسي للهوية والمصير. في حمص، أن تكون من الوعر غير أن تكون من الزهراء. في حلب، الشرقية غير الغربية. في دمشق، المزة 86 غير المزة فيلات. كل حي، كل قرية، كل مدينة، تحمل وسماً سياسياً-طائفياً لا يُمحى.

هذا التطييف الجغرافي ليس جديداً كلياً، النظام السوري استثمر فيه طويلاً، منذ السبعينيات على الأقل. السياسة الأسدية كانت دائماً سياسة تقسيم مُدار: إسكان العلويين في أحياء محددة قرب مراكز القوة، توطين الموالين في مناطق استراتيجية، عزل “المشكوك بولائهم” في جيوب مراقبة. حلب عوقبت بإهمال ممنهج، حماة بذاكرة مجزرة لا تُمحى، درعا بتهميش اقتصادي مقصود. كل مدينة، كل حي، كان له موقعه في خريطة الولاء والعقاب غير المعلنة. لكن الحرب حوّلت هذا التمييز الخفي إلى فصل صريح، الخريطة الرمزية إلى خريطة دم. الخطوط الفاصلة بين الأحياء، التي كانت حدوداً اجتماعية ناعمة، صارت خطوط قتال حقيقية. جسر يفصل بين منطقتين في حمص صار معبراً بين الحياة والموت. شارع في حلب تحوّل إلى خط تماس بين عالمين لا يلتقيان. والحواجز، تلك الآلة الأثيرة للنظام السوري، ومعارضته المسلحة لاحقاً، لم تعد تفتش عن المطلوبين فحسب، بل صارت تفرز البشر حسب هوياتهم الجغرافية-الطائفية: من هذا الحي يمر، من ذاك يُحتجز، من الثالث يختفي.

المواطنة، في هذا السياق المشوّه، لم تعد تتحدد بالانتماء لوطن أو حتى لسلطة، بل بمكان الولادة. عنوانك يحدد حقوقك، إن كان لك حقوق. حيّك يقرر إن كنت مواطناً من الدرجة الأولى أو العاشرة أو لست مواطناً أصلاً. الدستور، أي دستور، صار نصاً ميتاً أمام سلطة الجغرافيا المُطيّفة. والقانون، إن وُجد، يُطبّق حسب المنطقة: قاسٍ هنا، متساهل هناك، غائب في مكان ثالث. الأخطر أن هذا التطييف الجغرافي خلق واقعاً يصعب تجاوزه حتى لو أراد الجميع ذلك. أجيال نشأت لا تعرف “الآخر” إلا كعدو محتمل. أطفال كبروا محاصرين في أحيائهم، لا يعرفون من المدينة إلا ركنهم الضيق. كيف يمكن بناء مواطنة مشتركة بين من لا يعرفون بعضهم إلا عبر فوهة البندقية أو من خلف الحاجز؟ كيف يمكن الحديث عن وطن واحد لأناس يعيشون في عوالم متوازية لا تتقاطع إلا في لحظات العنف؟

بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب، لم تتدمر المدن والقرى فحسب، بل اللغة ذاتها. المفاهيم الأساسية التي نحتاجها للتفكير السياسي صارت أنقاضاً. ما معنى “الدولة” حين تكون هناك سلطات متعددة كلٌ تدّعي أنها الدولة؟ ما معنى “المواطن” حين يكون الانتماء محدداً بالولاء للسلطة المحلية لا للوطن؟ ما معنى “الحقوق” في غياب أي مرجعية قانونية موحدة؟ حتى مفهوم “السوري” ذاته صار إشكالياً. السوري في دمشق غير السوري في القامشلي غير السوري في إدلب غير السوري في برلين. كلٌ يحمل تصوراً مختلفاً عن سوريا، أي سوريا؟ سوريا الأسد؟ سوريا الثورة؟ سوريا الفيدرالية؟ سوريا المُتخيّلة؟ الهويات تتشظى، والتشظي يُنتج هويات جديدة أضيق وأكثر عدائية.

هذا الانهيار المفاهيمي ليس شأناً لغوياً ولا نزاعاً نظرياً بين نخب أكاديمية. ما انهار ليس القاموس، لكن القدرة الجماعية على التخاطب حول المستقبل. كيف يمكن الحديث عن “دولة” في بلد لا يملك تعريفاً مشتركاً لما تعنيه؟ كيف نخطّ “عقداً اجتماعياً” بين أطراف لا تعرف من هي، ولا تعترف ببعضها كأطراف؟ وكيف تُبنى “مصالحة” حين لا يوجد إجماع حتى على ما هو الفعل الذي يستدعي الاعتذار، أو من هو الذي يُفترض أن يعتذر؟ حين تختلف اللغة، يصبح البناء مستحيلاً، أو وهمياً في أحسن الأحوال.

الاعتراف الصعب الذي يجب أن ننطلق منه: نحن لسنا في لحظة تأسيس عقد اجتماعي جديد. العقد يتطلب حداً أدنى من الثقة المتبادلة، من الإيمان بإمكانية المستقبل المشترك، من القدرة على التفاوض. كل هذا غائب في سوريا اليوم. ما هو ممكن، في أحسن الأحوال، “تفاهمات هشة”، ليست عقوداً وإنما هُدَناً، وهي أيضاً ليست مبادئ بقدر ما هي ترتيبات مؤقتة للبقاء. هذه التفاهمات تأخذ أشكالاً مختلفة: اتفاقات “مصالحة” في الجنوب تسمح للناس بالبقاء مقابل الصمت. ترتيبات غير معلنة في الشمال تسمح بعبور البضائع بين مناطق متحاربة. تفاهمات عشائرية في الشرق تُنظّم توزيع الموارد الشحيحة. كلها صيغ للبقاء، لا للحياة. تُدير الحد الأدنى من التعايش، وقطعاً لا تؤسس لمجتمع.

قد لا تُنتج هذه التفاهمات الهشة عقداً اجتماعياً بالمعنى الكلاسيكي، لكنها ربما تُنبت نواة شيء آخر. لا اتفاقاً على الحقوق، فهذه رفاهية تأخّرنا عنها كثيراً، وإنما اتفاقاً على البقاء، على الاعتراف المتبادل لا كحاملين لمطالب، لكن ككائنات لا يمكن شطبها من الوجود. ليس لأن أحداً يريد ذلك، بل لأن محاولة الإلغاء أثبتت أنها أكثر كلفة من التعايش. هنا لا نُبني مجتمعاً، لكننا نُؤجّل انهياره. لا نُقرّ بشرعية الآخر، وإنما بصلابته. نوع من “ميثاق الندوب” أكثر من ميثاق التعاقد، حيث كل طرف يعرف أن الآخر مجروح، مشكوك فيه، ربما غير مرغوب… لكنه باقٍ، رغماً عن كل ذلك.

وهكذا نعود إلى حيث بدأنا: لم يعد هناك سوريون بالمعنى السياسي للكلمة. لكن ربما، وأشدد على ربما، في هذا الاعتراف القاسي بذرة خلاص ما. فالبناء الحقيقي لا يبدأ إلا بعد الاعتراف الكامل بالخراب. والهوية الأصيلة لا تولد إلا بعد موت الهويات المزيفة. لقد بدأنا من نهاية القصة لأن النهايات، أحياناً، هي البدايات الوحيدة الممكنة. انفراط شروط الاجتماع السياسي الذي وصفناه قد يكون، في قراءة أخرى، تحرراً من اجتماع سياسي لم يكن حقيقياً قط. تفكك “الشعب السوري” قد يكون اعترافاً متأخراً بأن هذا الشعب لم يُمنح فرصة حقيقية ليتشكّل كشعب، كإرادة جماعية حرة، لكن فُرض عليه أن يكون “شعباً” بمراسيم وحدود وخطابات.

السوريون الذين لم يعودوا موجودين بالمعنى السياسي ما زالوا موجودين بمعنى آخر: كبشر يتشاركون جغرافيا ممزقة وذاكرة مجروحة ومستقبلاً غامضاً. وربما من هذا الوجود الخام، العاري من الأوهام السياسية، يمكن أن يُبنى شيء أصدق من الماضي. الجواز السوري الذي صار مجرد وثيقة سفر قد يحمل، في عدم دلالته على هوية، إمكانية لهوية جديدة لم تُكتب بعد. والبطاقات الشخصية المتضاربة الصادرة عن سلطات متناحرة قد تكون، في تناقضها، اعترافاً بأن الهوية أعقد من أن تختزلها وثيقة.

نحن بدأنا من النهاية، ونختم بالبداية التي لم تحدث بعد. بداية لا نعرف ملامحها، لكننا نعرف شرطها: الاعتراف بأن ما كان لن يعود، وأن ما سيكون لن يُشبه ما تخيلناه. في هذا الفراغ المخيف بين النهاية التي حدثت والبداية التي لم تحدث، يعيش السوريون، أو من كانوا يُسمّون سوريين، زمنهم البيني. وربما، فقط ربما، في هذا الزمن البيني تُصاغ أسئلة أصدق من إجابات الماضي الكاذبة. أسئلة عمّن نكون حين لا نكون ما اعتدنا أن نكون. وفي البحث عن إجابات، قد يُولد معنى جديد لأن تكون سورياً، معنى لا تفرضه دولة ولا تحدده سلطة، لكنه ينبع من تجربة الفقد المشترك والبحث المشترك عن صيغة ما للعيش رغم كل شيء.

إلى أن يحدث ذلك، سنبقى حيث بدأنا: في النهاية التي قد تكون، إذا أحسنّا قراءتها، بداية أخرى.

مقالات مشابهة