عاد الياسمين، وعادت صور الوطن تتسلل إلى تفاصيل يومنا كما لو أن شيئًا من الحياة بدأ يعود ببطء. النوافذ انفتحت، والأعلام ارتفعت، والناس يتبادلون القصص والدموع، وكأن شيئًا لم يكن.
لكن، خلف كل بسمة، يقف سؤال لا يغيب: من يعيد من فقدناهم؟ من يعوّضنا عن تلك الوجوه التي كانت تمنح الوطن روحه؟
نحن لم نفقد منازل فقط، بل خسرنا سنوات من العمر، هوية تشوّهت، وطفولة خطفتها أصوات الطائرات وصفارات الإنذار.
رحل من كانت أصواتهم تملأ المكان، من كانت ملامحهم تعني لنا الحياة. ورغم محاولات الفرح، يبقى في القلب شيء مكسور.
من يعيد لنا وداعًا لم يحدث؟ من يعيد عناقًا تأخرنا عنه؟ من يعيد الزمن؟
أحياؤنا تغيّرت. أماكن الذكريات باتت أطلالًا. حتى رائحة الياسمين لم تعد قادرة على محو رائحة الغياب. ضحكات الأطفال تلاشت، واستُبدلت بأصوات القصف في ذاكرتهم. الحرب لم تأخذ فقط الحجارة، بل سرقت أرواحًا كثيرة .
نعم، نعود…
لكن إلى وطنٍ تغيّر. وطنٍ يفتقد الحياة التي عرفناها، ويشتاق لوجوه كانت تعطيه معناه الحقيقي.
رغم أن العودة حلمٌ تحقق، يبقى الحنين أثقل من الفرح، وتبقى الخسارة أعمق من الكلمات.
فقدتُ جدي، ولم أودّعه. رحل بصمت، قبل أن أقول له ما كنت أريد قوله.
لم أشكره، لم أحتضنه للمرة الأخيرة، لم أقبّل جبينه، ولم أشمّ رائحته.
لم يسمعني أقول له تلك العبارة التي كنت أكررها في طفولتي وأنا أضحك:
“جدو، لحيتك عم تشوكني!”
جملة صغيرة، قد تبدو عادية، لكنها اليوم تختصر كل الفقد … جدي لم يكن مجرد شخص… كان ذاكرة، كان حضنًا، كان وطنًا صغيرًا يحتويني.
برحيله، رحل جزء من قلبي معه. فماذا تعني البلاد إذا لم يكن فيها من نحب؟ وما جدوى العودة إن لم نجد أحضان من ننتظرهم؟
ستبقى في القلب غصة لا تشفى. غصة الفقد، غصة الحرب، غصة القهر على من رحلوا دون وداع. إلى جدي… أشتاق إليك، وأتمنى لو يعود الزمن ليومٍ واحد فقط. فقط يوم، أراك فيه، أقول لك كل ما لم يُقال، وأضمّك طويلًا… دون خوفٍ من الفقد