وزيرة بلا صوت: كيف تحولت النسوية إلى ديكور سلطوي

لا يكشف فقر الخيال السياسي في لحظات التحول أكثر مما يكشفه شكل التمثيل النسائي. ففي سوريا ما بعد الطاغية، حين يُقال إن زمناً جديداً قد بدأ، تبدو الصورة قديمة: امرأة واحدة في حكومة كاملة. حقيبة واحدة، بلا موقع سيادي، بلا صلاحيات مؤثرة، بلا اشتباك مع البنية العميقة للسلطة. وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وكأن التمثيل لا يُمنح للنساء ليفتح باباً، فقط ليسدّه. وكأن المطلوب من المرأة أن تُدرّب على التهدئة، لا على التغيير.

المعادلة هنا ليست حسابية. إنها معادلة في صناعة الوهم، في إنتاج الصورة المطلوبة للسلطة الجديدة. الوزيرة لا تمثل نفسها حتى، ناهيك عن تمثيل النساء. تمثل النسخة التي هندستها السلطة: الأنثى المُروّضة، التي تعلمت أن الصمت لغة البقاء، وأن الابتسامة قناع الحماية. جسد حاضر وروح غائبة، كرسي مشغول وصوت مخنوق. النسوية التي كانت تسكنها يوماً ما لم تمُت، فقد خضعت لعملية تحنيط احترافية. صارت زينة تُعرض في المناسبات، شهادة حُسن سلوك تمنحها السلطة لنفسها. ما حدث ليس خيانة – الخيانة تتطلب وعياً بالفعل – إنه انزلاق بطيء، تآكل تدريجي للذات تحت ضغط آلة السلطة. الهوية هنا لا تُقمع، لكن تُعاد برمجتها. تُفكك وتُركب من جديد على مقاس المنظومة. والنتيجة: كائن هجين، لا هو بالثائر ولا بالموالي، بل شيء بينهما، شيء بلا اسم ولا صوت.

لكن الصمت لا يحدث فجأة. إنه نتيجة تراكم، وترويض، واستبطان لشروط اللعبة. تتحوّل المعركة من تمثيل النساء إلى تمثيل السلطة، ومن كسر القوالب إلى ترميمها. كل صمتٍ يمرّ، يجعل القدرة على قول “لا” أصعب. وحين تصير الوظيفة أولوية، ينكمش الموقف.

ما يعمّق هذا الانكماش، أن الوزيرة ليست غريبة عن الحركة النسوية. فهي تحمل في سيرتها ما يكفي ليُنتظر منها ما هو أكثر من الصمت. ومع ذلك، قبلت بأن تُختزل في رمزية “التحوّل”، أن تتحوّل إلى ضمانة للسلطة، لا للمجتمع. إلى نسوية مطابقة للمواصفات، تُسوّق في المحافل، وتُستخدم كدليل على أن “الزمن تغير”. وحين يتحوّل التاريخ الشخصي إلى ذريعة للمؤسسة، وحين يتحوّل التمكين إلى بند في الخطة الإعلامية لا السياسية، يبدأ التفكك.

لم نسمع صوت الوزيرة حين طُردت النساء من أعمالهن، حين احتل “الدعاة الجدد” الفضاء العام، حين غابت النساء عن القضاء والإعلام ولجان صياغة القوانين. لم تتحدث، لأن الحديث لم يكن من مهامها. الصمت بندٌ في عقد التمثيل، لا خيار شخصي. ربما حاولت وراء الكواليس. لكن المشكلة لا تكمن في ما حاولته، لكن في ما أصبحت تمثّله. لأنها، ولو عن حسن نية، أصبحت جزءاً من مشروع تدجين الحركة النسوية نفسها. مشروع يُحوّل الفاعلات السابقات إلى واجهات سياسية، يُدمجهن في جهاز الضبط الناعم. وهكذا، تنتهي النسوية كخطاب نقدي، وتُعاد تقديمها كصيغة إدماج إداري.

ولا يمكن تحميل الوزيرة وحدها هذا التحوّل. فالحركة النسوية الأوسع، التي ناضلت لعقود من أجل حضور حقيقي، تبدو اليوم عاجزة عن مساءلة هذه اللحظة. المطلوب أن تعيد الحركة تعريف مواقفها. أن تفكك العلاقة بين الموقع والصوت. أن تقول بوضوح: هذه ليست لغتنا. لا لأننا نرفض الوزيرة، بل لأننا نرفض أن تكون النسوية هي الصمت المحترم، والخطاب الدبلوماسي، والانضباط المؤسسي الذي يُجنّب الجميع الإحراج.

الأخطر أن هذا النوع من التمثيل يُستخدم لتجميل القمع. السلطة لا تُقصي النساء، بل تُشرك واحدة وتقول: انتهى الزمن القديم. لكن القوانين على حالها، المنابر بيد التيارات ذاتها، والعنف الجندري بلا مساءلة. التمكين هنا ليس سوى هندسة دعائية لمرحلة انتقالية لا تعرف معنى العدالة الاجتماعية.

التمكين، في قاموس السلطة، ليس سوى احتواء محترف للنضال. الوزيرة تحولت – بوعي أو بدونه – إلى قطعة في آلة الدعاية. صمتها يعمل، يُنتج، يُطبّع. كل يوم يمر دون كلمة، تكتب السلطة سرديتها: انظروا، النساء معنا. الثورة انتصرت والصراع انطفأ. والعالم يرى امرأة في بدلة رسمية ويظن أن التاريخ تغيّر. لا يرى أن الصورة ذاتها هي الفخ.

الحاجة ليست إلى كرسي آخر حول طاولة مستديرة تدور حول نفسها، بل إلى من يسأل: لماذا هذه الطاولة بالذات؟ المساءلة الحقيقية تبدأ من رفض القواعد المفروضة سلفاً. نحن أمام خيار وجودي: نسوية تُغنّي في جوقة السلطة، أم نسوية تُدخل النشاز وتكسر الإيقاع؟ النسوية المُدجّنة أخطر من الذكورية الصريحة لأنها تُطبّع القمع وتُلبسه ثوب التقدم. تقول للنساء: انظرن، وصلنا. بينما الحقيقة أن ما وصل هو النموذج المشوّه. النسوية التي لا تُقلق منام السلطة ليست نسوية، إنها تقنية حكم، مخدّر اجتماعي يُوزّع بجرعات محسوبة.

نحتاج إلى نسوية وحشية في صدقها، متوحشة في رفضها للترويض. نسوية تفهم أن السلطة لا تمنح شيئاً بدافع الكرم، وأن كل تنازل هو فخ، وكل صمت هو تواطؤ. الإرباك هنا ليس غاية، بل وسيلة لكشف هشاشة النظام، لتعرية أكاذيبه، لفضح لعبته. والسؤال الحقيقي: هل نملك الشجاعة لهذا الإرباك؟ أم سنظل نُصفّق للوزيرة الصامتة ونقنع أنفسنا أن هذا تقدّم؟

مقالات مشابهة