الإعلام بوصفه بوصلةً أخلاقية.. ما الذي يجب أن نُغطيه حتى لو لم يكن رائجاً؟

في أصل السؤال الصحفي يكمن الخيار الأخلاقي؛ هل نغطي ما يُطلب؟ أم ما يجب أن يُقال؟ وهل ننصت إلى صدى السوق، أم نتحرّك نحو تلك الزوايا المظلمة التي لم يلتفت إليها أحد؟

حين تتحول الصحافة إلى أداة استجابة فقط، تفقد قدرتها على إنتاج المعنى، وعلى ممارسة دورها الثقافي كفاعل معرفي يُعيد ترتيب الأولويات.

في هذا السياق، تظهر الحاجة إلى مقاربة جديدة لسياسات التحرير، قائمة على الحاجة المجتمعية الكامنة وليس على الرغبة الجماهيرية. أي على إدراك أن بعض الموضوعات، وإن لم تكن مثيرة أو جذّابة، فإنها تمثّل صُلب القضايا التي تصوغ مستقبل الجماعة، وتستحق أن تُروى، لأنها تُبنى عليها أسس التصوّر المشترك للحياة، للعدالة، وللكرامة.

الحديث هنا لا يتعلّق فقط بسلطة الإعلام على تشكيل الرأي، إنما بدوره في توجيه الإدراك، وهي الفكرة التي طوّرها والتر ليبمان مبكراً في القرن العشرين حين تحدّث عن “البيئة الكاذبة” التي يصنعها الإعلام حين يُركّز على أجزاء من الواقع دون أخرى. الإعلام، وفق ليبمان، يُحدّد لنا ما الذي يجب أن نفكر فيه، أي أنه يُرسم حدود الإدراك، ويصوغ جدول القضايا، وهي الفكرة التي أصبحت لاحقاً أساساً لما عُرف بـنظرية ترتيب الأولويات التي طوّرها ماكسويل ماكومبز ودونالد شو، والتي تُظهر كيف يُسهم الإعلام في ترتيب العالم داخل أذهاننا.

لكن هذه النظرية، على الرغم من طابعها الوصفي، فتحت باباً لمقاربة نقدية أوسع؛ من يُقرر أولويات التغطية؟ ولمصلحة مَن؟. هنا، لا يعود الإعلام مجرد انعكاس لمزاج الجمهور، إنما يدخل في صلب صناعة الوعي، وهو ما يُلقي عليه مسؤولية أخلاقية تتجاوز الأداء المهني أو قواعد التوازن الصحفي.

من جهة أخرى، تلتقي هذه المقاربة مع ما طرحه المفكّر الألماني يورغن هابرماس في نظريته عن الفضاء العمومي، حيث اعتبر أن وظيفة الإعلام لا تقتصر على التبادل المعلوماتي، بقدر ما تتعلق بضمان انفتاح الحوار العام أمام كل ما يُقصى أو يُهمّش. بهذا المعنى، فإن تجاهل بعض القضايا، حتى لو لم يكن مقصوداً، يُنتج نوعاً من العنف الرمزي الصامت، يُقصي بالتدريج مجموعات كاملة من المشاركة في تشكيل الرأي العام.

وفي السياق ذاته، يطرح الباحث جيمس كاري تصوره عن الإعلام ليس كقناة بل كـطقس ثقافي، أي كفعل رمزي يُعيد إنتاج المجتمع من خلال سرد ذاته. هنا تظهر أهمية التغطية التي ترتكز على البنى الطويلة المدى، كقضايا العدالة البيئية، البنى الجندرية، الذاكرة الجمعية، وتمثيل الفئات الضعيفة. فهذه القضايا، وإن لم تُحدث “ضجة”، فإنها تُمثّل العمود الفقري لأي خطاب إعلامي أخلاقي لا يساوي بين الرغبة والحق.

الصحافة التي تُنصت فقط لما يُثير، تُخاطر بتحويل المجتمع إلى سوق للانفعالات، وتُعيد إنتاج تصور عن الواقع لا بناءً على ضروراته، بل على قابليته للتسويق. لكن السؤال الأخلاقي يفرض نفسه هنا بقوة؛ ما الثمن الذي يدفعه المجتمع حين تُترك بعض القضايا خارج الضوء؟
حين يُقصى المهم لصالح الجذّاب، يُختلّ الإدراك العام، وتُحجب البنى العميقة التي تصوغ حيوات الناس، لصالح وقائع سطحية تستهلك وتُنسى.

هذا ما يُعيدنا إلى الفكرة الجوهرية في العمل الصحفي الأخلاقي؛ أن نروي ما يجب أن يُروى، لا ما يُراد له أن يُروى. أن نُنير المساحات التي لا يراها أحد بعد، وأن نُعيد الاعتبار للبطء، للتعقيد، للهامش، للمنسيّ. فالصحافة هنا تقاس بعمق الأثر وبقوة الأسئلة التي تُعيد فتحها.

في هذا الإطار، يغدو الإعلام مسؤولًا عن أكثر من مجرد الخبر؛ إنه مسؤول عن إعادة هندسة الوعي، عبر اختياراته السردية اليومية التي تخلق تصوراً ضمنياً عن ما هو مهم وما هو غير مهم. إنها مسؤولية لا يمكن تفويضها إلى الخوارزميات، ولا تركها لرغبات الجمهور وحدها، لأنها مسؤولية ثقافية وأخلاقية في آن.

بناءً على ما سبق، تبرز ضرورة إعادة النظر في سياسات التحرير ومعايير “القيمة الخبرية”، فالمطلوب ليس أن نُعيد ترتيب الأولويات، إنما يجب أن نُخضع هذا الترتيب إلى نقد جذري، يسائل دوافعه، وآثاره، ونقاط عماه.

وبدل أن يُقال إن الصحافة تنقل ما يحصل، لعل الواجب الأخلاقي الأعمق هو أن تقول ما لم يحصل بعد، لكنه يجب أن يحدث؛ أن تُنبه، أن تحذّر، أن تُوقظ، أن تُعيد الاعتبار لما يُقصى لأنه لا يُناسب منطق السرعة والاستعراض.

إن التوسّع في هذه المقاربة، بات ضرورة ملحّة في عصر الإعلام الرقمي، حيث تُستبدل القيمة الأخلاقية بالقيمة الإحصائية، وحيث تُستنزف القضايا الكبرى في دوّامة الأخبار العاجلة. هنا بالضبط، يجب أن تستعيد الصحافة دورها كـبوصلة أخلاقية للمجتمع.

مقالات مشابهة