نحو ثقافة إعلامية قائمة على الشك المنهجي

في المراحل الانتقالية، حين تتبدّل المرجعيات وتتزاحم الخطابات، لا تكون المعلومة وحدها كافية لإنتاج وعي نقدي. يُصبح من الضروري الذهاب أبعد من التحقق، نحو تأسيس ثقافة إعلامية قائمة على الشك المنهجي، كمنهج يحرّر الصحافة من أسر الظواهر، ويدفعها نحو فهم أعمق لما يُقال، وكيف يُقال، ولماذا يُقال.

أدوات التحقق الكلاسيكية — تدقيق الصور، مقارنة المصادر، مراجعة التوقيت — تظل مفيدة، لكنها غير كافية في بيئات يغدو فيها الخبر نفسه ساحة صراع، ويُعاد فيه تشكيل الواقع من خلال انتقاء الوقائع. في مثل هذه اللحظات، يصبح المطلوب هو تفكيك بنية القول الإعلامي، لا الاكتفاء بمصداقيته؛ أي مساءلة الخطاب وليس تصويبه.

الشك هنا لا يعني الرفض التلقائي، ولا السقوط في عبثية “كل شيء كذب”، إنما هو حالة وعي تُسائل البنية الرمزية للخبر؛ ما الذي غاب؟ ما اللغة المستخدمة؟ ما الترتيب السردي؟ هذه الأسئلة تنتمي إلى أخلاقيات التفكيك، وهي ما يجب أن يشكّل أساس الصحافة المهنية في “سوريا الجديدة”.

في السياقات الانتقالية، حيث لا تزال المشروعية موضع تفاوض، وحيث تتداخل المؤسسات الجديدة مع بقايا النظام القديم، يصبح الإعلام أكثر من مجرد ناقل، فيغدو فاعلاً رمزياً يشارك في رسم حدود الممكن، وفي تأطير الخيال السياسي. لكن دون شكٍّ منهجي، يسهل للإعلام أن يتحوّل إلى مرآة مائلة، تعكس فقط ما يريد الأقوى قوله، وتغفل عن تفكيك آليات السيطرة الناعمة التي تُمارس عبر السرد، لا القمع.

خطورة غياب هذا النوع من الشك لا تنعكس فقط على مستوى الخطاب الإعلامي، إنما تتسرب إلى الوعي العام، فحين لا يُربّى الجمهور على التفكير النقدي، تصبح المعلومة – ولو كانت صحيحة – عرضة للتوظيف، ويغدو الصحفي نفسه مفعولاً به أكثر من كونه فاعلاً. هذا يفتح المجال لنوع جديد من التواطؤ الصامت، حيث تتغلف الرواية الرسمية بطلاء الحياد، بينما تفتك الحقيقة بتواطؤ الصمت والانتقائية.

ما نحتاجه إذن هو الانتقال من التحقق التقني إلى الشك الواعي، ومن قراءة الخبر إلى قراءة بنية الخبر، ومن استهلاك السرد إلى مساءلته. هذا لا يكون إلا بتدريب الصحفيين على إعادة النظر في ممارساتهم، بوصفها خيارات معرفية وأخلاقية. حين يُصبح الشك الممنهج جزءاً من “الحسّ الصحفي”، يمكن حينها للإعلام أن يستعيد أحد أدواره المركزية في اللحظات الانتقالية؛ أن يكون مرآة نقدية للمجتمع.

السلطات الانتقالية في كل السياقات لا تَمنح بسهولة مساحة للمعنى النقدي، إنها تفضّل خطاباً استيعابياً، مطمئناً، يُعيد إنتاج الإجماع الهشّ. من هنا، فإن ترسيخ ثقافة الشك ليس تمرداً على الواقع، بل هو محاولة لإعادة ربط الإعلام بوظيفته الأساسية؛ فتح المجال العام أمام المعنى المتعدد.

وفي بلد مثل سوريا ينهض من أنقاض حرب أو سقوط نظام سياسي، فإن الصحافة النقدية القائمة على الشك البنّاء لا تُهدد الاستقرار، إنما تؤسسه على قاعدة متينة؛ قاعدة الوضوح، والمساءلة، وحق كل فرد في أن يرى أبعد مما يُراد له أن يرى.

لفهم هذه المقاربة، يمكن العودة إلى نظرية “الحقائق المصنّعة” كما طرحها نعوم تشومسكي، والذي بيّن فيها كيف تتحول المؤسسات الإعلامية إلى أدوات لإنتاج واقع متخيَّل يخدم السلطة، لا لمجرد التواطؤ السياسي، بل لأن بنية الإنتاج الإعلامي ذاتها مشروطة اقتصادياً ومؤسسياً. هو ما يُحيل إلى حاجة ملحّة للشك المنهجي كوسيلة لفهم كيف تُصنع الحقائق.

أما في التجارب المقارنة، فإن تجربة جنوب أفريقيا بعد الأبارتايد تقدّم نموذجاً مهمّاً، فخلال المرحلة الانتقالية، سادت حالة من “التسامح الإعلامي السلبي”، حيث امتنعت بعض وسائل الإعلام عن التفكيك النقدي خشية تهديد الوحدة الوطنية. لاحقاً، دفعت البلاد ثمناً باهظاً حين لم تُطرح أسئلة جذرية حول رموز السلطة الجديدة. فيما نجد أن رومانيا ما بعد تشاوشيسكو، التي اعتمدت شكّاً إعلامياً واسعاً حتى تجاه المعارضة الصاعدة، رغم فوضى تلك المرحلة، نجحت جزئياً في منع احتكار السردية الانتقالية.

كما تشير نظريات بيير بورديو حول “العنف الرمزي” إلى أن أخطر ما يمر عبر الإعلام هو التطبيع مع أنماط سردية تبدو “طبيعية” أو “بديهية” لكنها تخفي داخلها تفضيلات أيديولوجية، وتُقصي أنماط فهم بديلة. وهو ما يفرض على الصحافة ألا تكتفي بالتصحيح، وإنما أن تُمارس تفكيكاً دائماً لبداهات القول، لأن السلطة الجديدة قد ترتدي لباس المصلحة الوطنية بينما تعيد إنتاج أنماط الاستبعاد والاحتكار الرمزي.

أما على صعيد المنطقة العربية، فإن مرحلة ما بعد الثورة في تونس تُعد نموذجاً مزدوجاً؛ فبينما انفتحت الصحافة على مساحات من التعبير الحر، ظلّت عاجزة في أحيان كثيرة عن مساءلة الخطابات الدينية أو الشعبوية الجديدة، مما مكّن بعض القوى من تطبيع مواقعها داخل المجال العام، تحت غطاء الشرعية الديمقراطية. يظهر هنا الفرق بين حرية الإعلام، وثقافة الشك الإعلامي.

إن بناء ثقافة إعلامية قائمة على الشك المنهجي لا يعني معاداة الاستقرار، وإنما حمايته من اختزال السياسة إلى طمأنة، أو من تحويل الإعلام إلى أداة تزيين لمشروع لا يملك القدرة على مساءلة نفسه.

مقالات مشابهة