في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، كانت سوريا – تاريخياً – إحدى أكثر الدول تموضعاً في تقاطع التأثيرات، لا بسبب موقعها فقط، بل بسبب ثقلها الرمزي والسياسي. ومع تفكك بنية الدولة منذ العام 2011، لم تعد سوريا مجرّد “دولة” في معادلة التوازنات الإقليمية، بل باتت “أداة” يتم توظيفها، استثمارها، أو حتى تسخينها – كلٌّ حسب حاجته – في سياقات أبعد من حدودها الوطنية. وهنا، لا بد من تفكيك هذا التموضع السوري المتحول بين منطق “المؤامرة” ومنطق “التوظيف السياسي”، بعيداً عن القراءات الشعبوية التي تُسقط تعقيد التحولات على سرديات تبسيطية.
فالتحليل السياسي الرصين لا يمكنه أن يتجاهل حقيقة أن سوريا تحولت إلى ما يشبه “صندوق أدوات إقليمي مفتوح”. كل فاعل في الإقليم بات يجد فيها فرصة لتعديل الموازين في ميدان آخر، أو لتفريغ فائض التوتر دون تحمل كلفة المواجهة المباشرة. إسرائيل، على سبيل المثال، لا تنفك تكرر منذ سنوات ضرباتها الجوية في العمق السوري، لكنها تفعل ذلك ضمن منطق “الردع المحدود”، وليس انطلاقاً من مشروع صدام مفتوح. تركيا، من جهتها، تمارس تدخلاً عسكرياً نشطاً، لكنها تربط حركتها دوماً بسياق التفاوضات مع موسكو وواشنطن، لا بمشروع استحواذ كامل على الأرض السورية.
هذه المعطيات لا تعني غياب الأجندات الخفية أو المصالح المتقاطعة، لكنّها تضعف من سرديات “المؤامرة الكبرى” التي تفترض وجود عقل مدبّر يدير كل المشهد من وراء الستار. على العكس، فإنّ ما تشهده سوريا هو نتاج تراكب سياسات مصلحية متنافرة، تتحرك بناءً على ضرورات وقتية، وتُعيد تشكيل تموضعاتها مع تغيّر البيئات السياسية. وهو ما يشير إلى أن ما يحدث ليس مؤامرة ممنهجة، بل “توظيف ذكي للفوضى”، أي أن اللاعبين الدوليين لا يصنعون الحدث السوري، بل يستثمرونه.
ولعلّ أخطر ما في هذا التوظيف هو أنه لا يحتاج إلى نجاح أي مشروع سياسي بديل داخل سوريا. بل على العكس، فإنّ حالة السيولة التي تعيشها البلاد – مع تعدّد الفاعلين، غياب مركز سياسي متماسك، وتحوّل السلطة الانتقالية إلى كيان غير معترف به – تجعل من سوريا فضاء مثالياً لتصفية الحسابات بأقل كلفة. وهنا نلمس ما يسميه باحثو العلاقات الدولية “الإقليم الرمادي”، أي المساحات التي تفقد فيها الدولة معناها القانوني، وتتحول إلى مجالٍ مفتوح للضبط، لا للسيادة.
لكن الأهم أن هذه المعادلة، بقدر ما تُرضي بعض القوى في المدى القصير، تُعيد إنتاج الأزمة نفسها على المدى الطويل. إذ أن أي “إلهاء” عبر الساحة السورية لا يمكن أن يبقى تحت السيطرة في بيئة متفجرة، تحكمها عوامل الهوية، العقيدة، والمظلومية. فكل فاعل يستخدم سوريا كأداة ضبط، سيجد نفسه لاحقاً أمام تداعيات يصعب احتواؤها. وهذا ما يؤكده منطق الارتداد الاستراتيجي الذي شهدناه في أكثر من ملف، من الغزو الأميركي للعراق إلى تدخل روسيا في أوكرانيا، حين تتحول الساحات الرمادية إلى نقاط ارتباك لا يمكن إدارتها.
من هنا، فإنّ مسؤولية إعادة المعنى للدولة السورية لا تقع فقط على السوريين أنفسهم، بل على المنظومة الإقليمية والدولية التي اختارت أن تجعل من بلدٍ بأكمله ساحة “مرونة استراتيجية”، دون أي التزام بإعادة بناء الحوكمة فيه. وأي حل مستدام يبدأ من الاعتراف بسوريا ككيان سيادي مستقل، لا كمسرح صراع دائم أو مساحة نفوذ مرنة تُفتح وتُغلق بحسب مواسم الضغط الجيوسياسي.
وبين خطاب المؤامرة وشراهة التوظيف السياسي، تظل الحقيقة الأكثر قسوة أن سوريا اليوم تُدار كملف، لا كقضية، وتُقرأ كميدان، لا كمجتمع. وما لم يُستعد لها بعدها الوطني، الاجتماعي، والإنساني، فإنّ “المؤقت” سيصبح دائماً، و”التكتيكي” سيبتلع الاستراتيجي، وتبقى البلاد معلقة في هوامش لعبة لا تملك فيها أوراقها.