قياس الرأي العام السوري.. ضرورة مؤسسية لضبط البوصلة الوطنية

في لحظة سياسية دقيقة تمرّ بها سوريا، وفي ظل مباشرة الحكومة الانتقالية مهامها رسمياً، تبرز الحاجة العاجلة إلى تأسيس بنية مستقلة تُعنى بقياس الرأي العام السوري بصورة علمية، منهجية، ومؤسسية. فغياب أدوات القياس الرصينة لا يساهم فقط في تعميق الفجوة بين السلطة والمجتمع، بل يضع السياسات العامة في دائرة التخمين والتجريب، وهو ما يتناقض مع أبسط مبادئ الحكم الرشيد القائم على الشفافية والتخطيط المبني على معطيات دقيقة.

قياس الرأي العام في السياقات الانتقالية ليس ترفاً إدارياً أو نشاطاً ثانوياً، بل هو ضرورة جوهرية لضبط بوصلة الأداء الحكومي وتحديد أولويات العمل العام. فالمجتمعات الخارجة من النزاع، كالحالة السورية، لا تُبنى فقط بالإعمار المادي والبنى التحتية، بل يُعاد فيها أيضاً بناء العقد الاجتماعي، وترميم الثقة بين المواطن والدولة، وإعادة تعريف مفهوم الشرعية على أساس التفاعل مع تطلعات الناس.

ما نحتاجه اليوم ليس مجرد استطلاعات رأي موسمية أو استبانات شكلية، بل مؤسسات بحثية مستقلة تُنتج مؤشرات دورية حول اتجاهات الرأي العام، تُقيس درجة الثقة بالحكومة، الانطباعات حول الخدمات، المواقف من القضايا الوطنية، وتصورات الجمهور حول أولويات المرحلة. إن غياب هذه الأدوات يفتح الباب أمام النخب لتفسير الواقع كما ترغب، لا كما هو، ويُبقي المجتمع خارج معادلة التأثير الحقيقي.

لا يكفي، كما يفعل بعض الفاعلين السياسيين أو الإعلاميين، الاكتفاء بتحليل ما يُكتب على منصات التواصل الاجتماعي، أو قياس ردّات الفعل الغاضبة على حدث ما. فهذه المنصات تعبّر غالباً عن شرائح محدودة، وتخضع في كثير من الأحيان لآليات تضخيم أو تلاعب بالرأي، ولا تصلح أن تكون مرآة شفافة لنبض الجمهور الواسع.

تأسيس مركز أو شركة مستقلة لقياس الرأي العام، بإشراف مهنيين وخبراء سوريين من خلفيات متنوعة، سيكون خطوة مهمة في اتجاه التأسيس لثقافة سياسية جديدة، ثقافة تستمع للناس لا تُملي عليهم، وتتعامل مع الرأي العام بوصفه شريكاً لا خصماً، وتبني شرعيتها على القبول الشعبي لا على الصياغات القانونية فقط.

ولعل الأهم من القياس بحد ذاته، هو الالتزام المسبق بنتائج هذا القياس. أي أن تقرأ الحكومة المؤشرات وتُعيد تعديل السياسات على ضوء ما تكشفه البيانات. بهذا المعنى، تصبح أداة قياس الرأي العام آلية للمساءلة الناعمة، ورافعة لإنتاج سياسات أكثر عدالة وفعالية.

من جهة ثانية، يمكن لهذه المؤشرات أن تلعب دوراً حيوياً في توجيه الإعلام الرسمي والخاص، بما ينسجم مع اهتمامات الجمهور ويبتعد عن الخطابات الفوقية. كما يمكن استخدامها في تصميم حملات التوعية، ووضع برامج الاستجابة المجتمعية، بل وحتى في دعم عمل منظمات المجتمع المدني.

نحن اليوم أمام لحظة مفصلية في تاريخ سوريا الحديث. الانتقال السياسي لا يُقاس فقط بترتيب السلطات وتوزيع المناصب، بل بمدى تأسيس ممارسات جديدة في الحياة العامة، تقوم على المأسسة لا المزاج، وعلى البيانات لا التخمين، وعلى التفاعل مع المجتمع لا التسلط عليه.

وعلى الرغم من أن إنشاء مركز مستقل لقياس الرأي العام قد يبدو مسألة تقنية أو إجرائية، إلا أنه في الحقيقة يتصل جوهرياً بمفهوم الحكم الرشيد وبنية الدولة الجديدة. بل إننا نستطيع القول إن أي حكومة لا تملك أدوات قياس رأي الناس، لن تستطيع أن تحكمهم بشكل عادل أو فاعل.

في هذا السياق، من المفيد الاستفادة من تجارب دول مرت بظروف انتقالية مشابهة، مثل جنوب إفريقيا أو كولومبيا، حيث لعبت مؤسسات قياس الرأي العام دوراً محورياً في إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وضمان انتقال سلمي نحو أنظمة أكثر شمولاً وشفافية.

لذلك، فإن تأسيس هذه الأداة في سوريا اليوم ليس فقط ضرورة تقنية، بل هو إعلان عن دخول مرحلة جديدة من السياسة؛ مرحلة يكون فيها صوت الناس هو المعيار الأهم لنجاح السلطة أو فشلها.

مقالات مشابهة