في الغرفة 101 السورية: كيف تُعيد المجتمعات المهزومة تعريف نفسها

في مشهد من رواية أورويل “1984”، في “غرفة 101” يصف اللحظة التي يتعلّم فيها البطل أن يحب “الأخ الأكبر” فعلاً، لا خوفاً فحسب. اللحظة التي يتماهى فيها الضحية مع الجلاد، ويصبح الخضوع اختياراً لا إكراهاً. ما يحدث في سوريا اليوم ليس بعيداً عن هذا المشهد: مجتمع كامل يتعلّم، ببطء وثبات، أن يقبل ما كان يرفضه، أن يبرر ما كان يدينه، أن يصمت حيث كان يصرخ. التجنيس الصامت للمقاتلين الأجانب ليس مجرد قرار سياسي. إنه اختبار نفسي جماعي: كم من الإذلال يمكن أن يتحمّل شعب قبل أن ينكسر؟ وحين ينكسر، كيف يُعيد تعريف نفسه ليتعايش مع الكسر؟

البداية دائماً صادمة. خبر يتسرّب، قرار يُفرض، واقع جديد يُزرع في الأرض كلغم. الناس يغضبون، يتذمرون، يتساءلون. لكن الغضب بلا فعل يتحوّل إلى إحباط، والإحباط المتكرر يولّد اللامبالاة. هكذا، خطوة خطوة، يتآكل الرفض. السلطة تعرف هذا جيداً. لا تحتاج لإقناعك، يكفي أن تُنهكك. تفرض الأمر الواقع وتنتظر. تعرف أن الزمن حليفها، وأن الإنسان المُتعب سيجد في النهاية طريقة لتبرير استسلامه. “ربما هذا أفضل من الفوضى”، “على الأقل هناك من يحمينا”، “لا نريد حرباً جديدة”. عبارات تبدأ همساً وتنتهي قناعة.

النفس لا تحتمل التناقض طويلاً. حين تعجز عن كسر الواقع، تنكسر أمامه. تغيّر قناعاتها لا شروطها. يسمي علماء النفس هذا “التنافر المعرفي”: أن يتصادم ما نؤمن به مع ما نعيشه، فنُعيد تشكيل الإيمان كي لا نُضطر لتغيير الحياة. لأن مواجهة الحقيقة تتطلّب شجاعة، والكذب على الذات لا يتطلب سوى تعب مزمن.

في مجتمع مُحطّم، تصبح القوة هي اللغة الوحيدة المفهومة. الغريب المسلّح يتجاوز كونه شخص يحمل سلاحاً، ليصبح رمز للقدرة على الفعل في عالم عاجز. ابن البلد الأعزل، مهما كانت شرعيته التاريخية، يبدو ضعيفاً، عاجزاً، منتمياً لزمن انتهى. هذا ليس حكماً أخلاقياً، بل توصيف لديناميكية اجتماعية. في مجتمعات ما بعد الحرب، حيث انهارت المؤسسات وتلاشت القوانين، يُعاد تعريف الشرعية. لا تعود مستمدة من التاريخ أو الانتماء، وإنما من القدرة على فرض النظام، ولو بالقوة. الأويغوري المسلّح، في هذا السياق، ليس دخيلاً هو “صانع واقع”. هو من شارك في “التحرير”، من دفع الثمن، من يملك القدرة على الحماية أو التهديد. أما السوري الأعزل، فمجرد رقم في إحصائية، صوت في فضاء لا يسمع الأصوات.

المفارقة المريرة أن هذا المنطق ذاته هو ما ثار عليه السوريون. لكن الثورات حين تفشل لا تعود للمنطلق الأول، تنتج نسخاً مشوّهة من النظام الذي حاربته. النظام الجديد يتعلّم من القديم: نفس آليات السيطرة، لكن بوجوه جديدة وشعارات محدّثة.

الذاكرة الجماعية ليست أرشيفاً ثابتاً، وإنما موقع صراع دائم. من يملك السردية يملك الماضي، ومن يملك الماضي يُشكّل الحاضر. السلطة تعرف هذا، لذلك تعمل بدأب على إعادة كتابة التاريخ. البداية: تشويش السردية. من هم هؤلاء المقاتلون؟ أبطال شاركوا في التحرير أم مرتزقة؟ الإجابة تُترك عائمة، ضبابية. في الضباب، كل التأويلات ممكنة. الخطوة الثانية: خلق سردية بديلة. “جاؤوا لنصرتنا”، “ضحّوا من أجلنا”، “يستحقون المكافأة”. السردية تُكرّر حتى تصبح حقيقة، أو على الأقل حتى يصبح التشكيك فيها مُكلفاً اجتماعياً. الخطوة الأخيرة: محو البدائل. أصوات الرفض تُهمّش، تُشيطن، تُتّهم بالخيانة أو السذاجة. “أتريدون عودة النظام؟”، “ألا تقدّرون التضحيات؟”. الرفض يصبح موقفاً محرجاً، غير وطني، غير واقعي.

هكذا، خلال سنوات قليلة، يتحوّل المرفوض إلى مقبول، والمقبول إلى ضروري، والضروري إلى مقدّس. الذاكرة الجماعية تُعاد صياغتها لتستوعب الواقع الجديد، وكأن شيئاً لم يكن.

في مجتمع مُسلّح، تصبح البندقية أكثر من أداة. تتحوّل إلى رمز للانتماء، معيار للمواطنة، لغة للتواصل مع السلطة. من لا يحمل سلاحاً يُصبح مواطناً من الدرجة الثانية، صوتاً بلا صدى. هذا التحوّل ليس عفوياً. السلطة تُغذّيه لأنه يخدم مصالحها. مجتمع يُعرّف نفسه بالسلاح هو مجتمع يقبل منطق القوة، يُبرر العنف، يرى في الحرب حالة طبيعية لا استثناء. المقاتل الأجنبي، في هذا السياق، ليس دخيلاً وإنما نموذجاً. هو المواطن المثالي في دولة الحرب: يحمل السلاح، يطيع الأوامر، لا يسأل عن الحقوق. مقابل ذلك، يحصل على الهوية، الحماية، المكانة. صفقة واضحة في عالم ضبابي.

لكن لماذا يقبل الناس؟ لماذا يصمتون؟ الجواب أعقد من الخوف وحده. في عمق النفس البشرية، تعمل آليات معقدة تحوّل الضحية إلى متواطئ. حين يطول الأسر، يحدث شيء غريب: يبدأ المأسور بالتماهي مع آسره، يتبنّى منطقه، يُبرر أفعاله، حتى يدافع عنه ضد من يحاول تحريره. مجتمعات بأكملها تُصاب بهذا التحوّل النفسي، تتعلّم أن تحب جلّادها، أن ترى في قيودها حماية لا أسراً. والإنكار يصبح ملاذاً. الاعتراف بحجم الكارثة مؤلم لدرجة لا تُحتمل. العقل يختار الهرب: “ليس بهذا السوء”، “هناك ما هو أسوأ”، “على الأقل…” – تعويذات نرددها لحماية أنفسنا من الانهيار. نُقلّل، نُبرر، نبحث عن الجانب المشرق في الظلام الدامس. أي شيء أفضل من مواجهة الحقيقة العارية: أننا مهزومون، مكسورون، متواطئون.

ثم هناك الحاجة الوجودية للمعنى. البشر لا يحتملون أن يكون الألم بلا غاية، الموت بلا هدف، الدمار بلا حكمة خفية. العبثية أثقل من أي قهر. لذلك نخترع السرديات، نبني الأساطير، نُقنع أنفسنا أن وراء الفوضى خطة، وفي نهاية النفق ضوء. نحتاج أن نؤمن أن كل هذا له معنى، وإلا فالجنون أقرب من العقل، والموت أرحم من الحياة. لكن التواطؤ له ثمن. كل تنازل يُضعف الشعور بالذات، كل صمت يُعمّق الاغتراب. المجتمع الذي يقبل إذلاله يفقد تدريجياً قدرته على الفعل، على الحلم، على التخيّل. الاكتئاب الجماعي الذي يضرب المجتمعات المقهورة نتيجة حتمية للتناقض بين ما نعرف أنه صحيح وما نُجبر على قبوله. الروح البشرية تنكسر حين تُجبر على الكذب على نفسها يومياً.

هل من مخرج؟ التاريخ يُعلّمنا أن المجتمعات تملك قدرة مذهلة على التعافي، لكن الشفاء يتطلّب أولاً الاعتراف بالمرض. يتطلّب مواجهة مؤلمة مع الذات، اعترافاً بالتواطؤ، رفضاً للإنكار. يتطلّب أيضاً إعادة بناء المعنى. ليس المعنى المفروض من فوق، لكن المعنى المُكتشف من الداخل. معنى لا يعتمد على السلاح أو السلطة، وإنما على القيم الإنسانية الأساسية. الأهم، يتطلّب كسر دائرة الصمت. الكلمة الأولى هي الأصعب، لكنها تفتح الباب لكلمات أخرى. والكلمات، مهما بدت ضعيفة أمام البنادق، تملك قوة خاصة: قوة تسمية الأشياء بأسمائها، قوة رفض الكذبة، قوة استعادة الكرامة.

ما يحدث في سوريا ليس استثناءً في سجل الإذلال البشري. التاريخ مقبرة جماعية للشعوب التي ظنّت هزيمتها نهائية. من وارسو المحتلة إلى الجزائر المستعمرة، من تشيلي بينوشيه إلى جنوب أفريقيا الأبارتايد – نفس المشهد يتكرر بتنويعات طفيفة: مجتمع يُسحق حتى يظن ساحقوه أنه تحوّل إلى غبار، ثم يكتشفون أن الغبار نفسه قابل للاشتعال.

المفارقة المُرّة أن المجتمع الذي يُرغم اليوم على تقبيل يد القاتل الأجنبي، على منحه صك المواطنة الشرفية بينما أبناؤه يُعاملون كغرباء في أرضهم – هذا المجتمع نفسه، بنفس جيناته الثقافية وذاكرته الجمعية، هو الذي أنجب لحظة 2011 المجيدة. الثورة لم تأتِ من الفضاء الخارجي، نبتت من تربة هذا الشعب “المهزوم”. وما نبت مرة قابل للنمو مجدداً، حتى لو احتاج قرناً ليخترق الإسمنت المسلح الذي يُصبّ فوقه.

القدرة على قول “لا” لا تُستأصل بالجراحة. تنزوي في الأعماق كفيروس نائم، تتنكر، تتحوّر، تنتظر. قد تمرّ أجيال وهي كامنة، لكنها تنتقل عبر حكايات الجدّات، عبر أغنية ممنوعة، عبر نكتة سوداء، عبر صمت مُعبّر أكثر من ألف خطاب. المقاومة ليست دائماً بندقية أو مظاهرة. أحياناً تكون مجرد رفض نسيان، إصرار على تذكّر أن هذا الواقع ليس طبيعياً، أن العبودية ليست قدراً جينياً، أن الكرامة – تلك الكلمة المبتذلة من فرط الاستخدام – ليست ترفاً لكنها حاجة إنسانية كالماء والهواء.

التاريخ لا يُعيد نفسه، لكنه يُقفّي. والقافية هنا واضحة: كل إمبراطورية ظنّت نفسها أبدية انهارت، كل طاغية اعتقد أنه أخضع شعبه نهائياً وجد نفسه هارباً أو مشنوقاً، كل احتلال بدا راسخاً كالجبال تبخّر كالضباب. ليس لأن العدالة حتمية – فالعالم أظلم من أن يضمن العدالة – لكن لأن البشر، في عنادهم الأعمى، يرفضون أن يعيشوا عبيداً ويُدفنوا عبيداً. شيء ما في التركيبة البشرية يأبى الخضوع المطلق، حتى لو بدا الخضوع خياراً عقلانياً وحيداً.

في النهاية، السؤال ليس إن كان التغيير ممكناً بعد الهزائم المتتالية، لكن متى وكيف سيحدث وهل سنتعلم الدرس حينها. وإلى أن تأتي تلك اللحظة، نحن محكومون بمهمة لا يريدها أحد: أن نكون الذاكرة الحية في جسد ميت، أن نكون حرّاس الذاكرة في زمن النسيان المُمنهج، أن نُصرّ على تسمية الأشياء بأسمائها حين يريد الجميع إغراقها في الضباب، أن نرفض – بعناد أعمى – التصالح مع القبح مهما تزيّن بثياب الواقعية، هذه ليست رومانسية ثورية. نعرف أن كلماتنا لن تُسقط الطغاة غداً، وأن رفضنا لن يُعيد الموتى. لكننا نكتب ونرفض ونتذكّر لسبب وحيد: لأن في هذه الأفعال الصغيرة يكمن الفرق بين الإنسان والعبد. العبد يقبل، الإنسان يرفض. حتى لو كان رفضه همساً في عاصفة.

الصمت قرار، مثلما الكلام قرار. وفي قدرتنا على الاختيار – هذه القدرة البسيطة المُعجزة – تكمن آخر قلاعنا. قد يسلبون منا الأرض والبيت والأمان، قد يفرضون علينا واقعاً لا نريده وهوية لا نعرفها، لكنهم لا يستطيعون أن يسلبوا منا حق النطق بكلمة واحدة: “لا”. تلك التي نقولها في الظلام، للجدران، لأنفسنا. “لا” التي لا تصل لأذن الطاغية ولا تزعزع عرشه. “لا” العاجزة، المكسورة، المنسية. لكن تذكروا جيداً، في هذه “اللا” الهشّة يكمن كل ما تبقّى من كرامتنا. وطالما بقي فينا نَفَس لنقولها، فنحن لم نُهزم بعد. 

لم نُهزم تماماً.

مقالات مشابهة