ما الذي يدفع بعض السوريين اليوم لتقديم أنفسهم كامتداد لبني أميّة؟ من أين ينبع هذا الحنين المفاجئ إلى دولة دينية سقطت قبل أكثر من ثلاثة عشر قرناً؟ ولماذا يُعاد استدعاؤها الآن، في لحظة من المفترض أن تكون لحظة قطيعة مع كل أنماط السلطة التي جرّعت السوريين الذلّ والقهر والاستبعاد؟ هذه الأسئلة هي إشارات واضحة إلى مأزق سياسي يبحث عن مخرج في الخرافة بدل الواقع . حين يفشل الخطاب الجمعي في صياغة مشروع للمستقبل، يعود إلى الماضي كمهرب. لكن هذا النوع من العودة ليس بريئاً تماماً، إنه محمّل بوهم الهيمنة واستعادة التفوّق المذهبي المغلّف بهوية تاريخية زائفة.

من يروّج لهوية “سوريّة أمويّة” لا يتحدث عن التاريخ، إنما يؤسس لنظام سلطوي. لا أحد يستحضر خلافة ماتت إلا ليبرّر سلطة جديدة، تطمح لإعادة هندسة المجتمع تحت راية المنتصر القديم. هذا ليس حنيناً وجدانياً، إنه مشروع إقصاءٍ جديد يتستّر بعبارات المجد المتخيل. من يربط دمشق ببني أميّة لا يقدّم قراءةً للماضي وحسب، بل يخطّ خارطة قمعٍ بهوية دينية ضيّقة، تستدعي النسب بدل العقد الاجتماعي، والسلالة بدل المواطنة.

المشكلة لا تقف عند حدود العبث الرمزي. هذه الاستعادة المصطنعة تُخفي مشروعاً سياسياً مُبيّتاً: صياغة هوية سنّية متخيّلة، تُخضع التنوع السوري لصورة واحدة مختزلة، وتُعيد إنتاج منطق الدولة المركزية ذات البنية الطائفية، لكن هذه المرة بوجه مختلف. كما تُستخدم هذه السرديات لتبييض صفحات قاتمة من العنف الطائفي، عبر محو الذاكرة الجمعية التي تشمل تجاوزات فصائل سنّية بحق المدنيين من مختلف الطوائف، بمن فيهم السنّة أنفسهم، بحيث يُعاد تشكيل رواية الضحية الواحدة، ويتم تطهير الذات الجماعية من مساءلة تاريخية مستحقة. لا شيء في هذا الخطاب يعترف بتعقيد المجتمع السوري، ولا بتاريخه الذي لم يكن يوماً موحّداً تحت سلطة واحدة أو هوية واحدة. الحنين الأموي اختزالٌ عنيفٌ لبلدٍ تشكّل عبر قرون من التنوّع والصراع والاختلاط. سورية التي نعرفها لا تختزلها سلالة، ولا تختصرها أسطورة خلافة.

الدولة الأموية التي يُعاد استدعاؤها اليوم لم تكن “خلافة” بالمعنى الإسلامي المثالي، لقد كانت مشروعاً سياسياً ملكيّاً وراثيّاً مغلّفاً بشرعية دينية، استخدم الدين لتبرير احتكار السلطة وتحويلها إلى إرث عائلي. من موقعة كربلاء وقتل الحسين، إلى استباحة المدينة في وقعة الحرة، إلى فرض الوراثة في الحكم، لا شيء في إرث هذه الدولة يصلح ليُقدَّم كنموذج لعقد سياسي جديد. وما يُروّج له اليوم كرمز للفخر أو النهوض السنّي، ما هو إلا ذاكرة منتقاة تُخفي خلفها سجلّاً طويلاً من القمع والتهميش والتسلط. إن محاولة صبغ هذا المشروع بلبوس “الهوية السنية” لا تعبّر عن قراءة تاريخية موضوعية إذاً، فهي تجسد خيانةً لذاكرة الطائفة نفسها، عبر زجّها في معركة لا تُشبهها وتاريخ لا يمثلها.

الخطاب الأموي اليوم لا يتحدى الاستبداد السابق، بل يعيد إنتاجه وحسب. الفارق الوحيد هو موقع الطائفة في المعادلة. من سلطةٍ تُدار باسم حماية الأقليّة، إلى سلطةٍ تُدار باسم استعادة تفوّق الأكثريّة. الطغيان لا يُلغى حين يتبدّل لونه، بل حين يُسحق من جذره. والحديث عن مواجهة النظام الطائفي عبر استدعاء بديل أكثر طائفية ليس ثورة على القمع، بل إعادة ترتيب مصالحه.

ما يجعل هذا الخطاب أشد خطورة أنه لا يتحرك في فراغ، بل يأتي متزامناً مع تفعيل ممنهج للمظلومية السنّية ضمن أجندات إقليمية تسعى لإعادة رسم النفوذ في سوريا ما بعد الأسد. تحالفات تستثمر في قوى محلية وخطابات سلفية، تُعيد تدوير الاستعلاء متسترةً بالدين والتاريخ. هكذا ينتقل الحنين الأموي من مجرد استدعاء رمزي إلى أداة هيمنة سياسية في توازنات ما بعد الحرب، لا لاسترجاع عدالة غائبة، وإنما لتصفية حساب مؤجّل.

لا خلاص في الهوية المختزلة. لا مستقبل في وهم التفوّق الديني. لا بناء وطني خارج التعدد. من لا يرى في سورية سوى امتداد لبني أميّة، لا يعتبر الأكراد شركاء، ولا العلويين مواطنين، ولا الدروز حلفاء، ولا الآشوريين أصواتاً تستحق الحياة. من يفكّر بمنطق الوراثة لا يؤمن بالشراكة. ومن يستدعي التاريخ ليحكم الحاضر، لا يبني مستقبلاً، بل يعيد إنتاج المأساة.

الفرصة التي فتحها سقوط النظام لا تكمن في إعادة توزيع السلطة فقط، وإنما في تحطيم بنيتها. التحدّي ليس في تغيير القناع، التحدي يكمن في كسر اللعبة كلّها. إما دولة مواطنين، أو إعادة إنتاجٍ مستمرّة للطغاة، يتبدّلون بالأسماء والرايات، ويستمرّون في الوظيفة ذاتها. من لم يتعلّم من سقوط الأسد، سيعيد صناعته على هيئة خليفة.

البديل لا يُبنى من رماد الخلافة، ولا من أوهام المجد الوراثي، بل من إعادة تعريف العلاقة بين الفرد والدولة على أساس المساواة الكاملة. في بلد ممزق كـسوريا، المواطنة ليست ترفاً لغوياً، وإنما شرطاً وجودياً. أن تكون مواطناً يعني أن لا تُختزل في طائفتك، ولا تُعاقَب بها، ولا تحكم باسمها. يعني أن لا يكون التاريخ وصمة، ولا الجغرافيا قدراً، ولا الدين مرآة للسلطة. المواطنة، في هذا السياق، هي القطيعة الحاسمة مع منطق الغلبة، مع الإرث الأبوي، مع شهوة الحكم باسم الجماعة. من دونها، سنبقى نعيد إنتاج القبور، ونختلف فقط على شكل الراية فوقها.

كلّما سقط طاغية، خرج من ينادي بإعادة المجد. من عبد الناصر إلى صدام، ومن القذافي إلى الأسد، يتكرّر المشهد نفسه. لا أحد يسأل لماذا سقطت هذه الأنظمة، وإنما يفتّش عن نسخة قديمة ليعيد تشغيلها. المجتمع الذي لم يعتد العيش بلا وصاية، لا يطيق الحرية إلّا إذا نطق بها قائد. الهروب من الاستبداد يتحوّل إلى بحث عن نسخة مألوفة منه، بوجه تاريخي أو بلباس ديني. الحاجة إلى رمز مطلق لا تعبّر عن وعي سياسي أبداً، وإنما عن خوف جماعي من الفراغ. من لم يتحرّر من حاجته إلى الأب، سيعيد صناعته في كلّ مرحلة، باسم مختلف، وراية مختلفة، وسقفٍ جديد للقهر.