أن تهدم تمثال الطاغية لا يعني أنك أسقطت الطغيان. أن تسقط النظام لا يعني أنك ألغيت الاستبداد. العنف، حين يُبرَّر، يُعيد إنتاج ذاته بأسماء وأقنعة جديدة. وفي سوريا، حيث كانت الثورة وعداً بالخلاص من القمع، يبدو أنها تتحول إلى مأساة أخرى حيث بدأ العنف يبرر العنف، وأصبح الانتقام بديلاً عن العدالة، والقوة معياراً للحقيقة.

لقد كانت الثورة السورية، في جوهرها، ثورة ضد الظلم، محاولة لاستعادة الكرامة الإنسانية في وجه آلة الاستبداد الأسدي التي دهست كل شيء لعقود. لكنها، كما يحدث دائماً في التاريخ، لم تكن محصنة ضد المنطق السائد في المنطقة: منطق الانتقام، منطق تحويل الضحية إلى جلاد جديد.

اليوم، وبعد أن هرب الأسد، وبعد أن تهاوت منظومته الأمنية والعسكرية، نجد أنفسنا أمام معضلة أخلاقية لا تقل خطورة عن كل ما سبق. هل يمكن لثورة قامت من أجل الحرية والعدالة أن تتحول إلى أداة انتقام؟ هل يمكن للمظلوم أن يُعيد إنتاج الظلم لمجرد أنه امتلك زمام الأمور أخيراً؟

السؤال لا يخص من تبقى من رموز النظام فقط، بل يمس جوهر الثورة ذاتها. لأن العدل لا يمكن أن يكون انتقائياً، ولا يمكن أن يُختصر في تصفية الحسابات. في اللحظة التي نقرر فيها أن “المظلومية” تُبرر العنف ضد من مارس العنف، نكون قد دخلنا في ذات الدوامة التي أسقطتنا في البداية. اللحظة التي يقف فيها الثائر ليبرر العنف، حتى ضد من قصفه وهدم بيته وقتل عائلته، هي اللحظة التي يجب عليه أن يتوقف فيها ليسائل نفسه: هل كنت أريد تغيير السلطة ونظام القمع واللاعدل أم أنني أردت تغيير الديكتاتور فقط؟

من قال أن الثورة كانت مجرد معركة ضد نظام بعينه، الثورة قامت ضد ثقافة سياسية متجذرة، ترى في العنف حلاً، وفي القمع ضرورة، وفي الانتقام عدالة. أن تُسقط نظاماً بالقوة لا يعني أنك أنشأت نظاماً جديداً أكثر عدلاً. العدالة الحقيقية لا تأتي من فوهة بندقية، ولا تُصنع في غرف التحقيق السرية، ولا تُنفذ بإعدامات ميدانية، بل تتطلب قضاءً مستقلاً، وقوانين عادلة، وإيماناً بأن لكل إنسان، حتى الجلاد، الحق في الدفاع عن نفسه أمام محكمة لا تمارس التشفي، بل تُطبق القانون بحياد.

لكن هذا الكلام يبدو طوباوياً في نظر البعض، أولئك الذين يرون أن الدم يُغسل بالدم، وأن “المرحلة لا تحتمل الضعف”. في نظر هؤلاء، فإن التساهل مع من خدموا النظام أو تواطأوا معه هو خيانة لدماء الشهداء. ولكن السؤال الحقيقي هنا: هل يمكن بناء دولة على أساس الكراهية؟ هل يمكن أن تقوم العدالة على قاعدة أن “الظلم للظالم عدالة”؟

العدالة الحقيقية تعني أن يُحاكم الأسد نفسه أمام قضاء نزيه، تحت سقف دستور وطني، أن يُتاح له الحق في الدفاع، تماماً كما نطالب أن يحصل كل مواطن سوري على حقه في المحاكمة العادلة. هذا ليس ترفاً أخلاقياً، بل حجر الأساس لأي مجتمع يحلم بالخروج من نفق الاستبداد إلى فضاء المواطنة الحقة.

المفارقة أن الثورة التي بدأت بشعارات الحرية والكرامة، تُهدد اليوم بالانزلاق في مستنقع الحسابات الضيقة. فبين خطاب الانتقام وخطاب العدالة، ثمة هوة خطيرة تهدد كل ما تم السعي من أجله. السوريون الذين ثاروا لأجل الحرية، لا يمكن لهم أن يتحولوا إلى جلادين جدد، لأنهم بذلك يُثبتون أنهم لم يتحرروا فعلياً من إرث الاستبداد، بل استبدلوا رأسه فقط.

سوريا لن تتعافى إذا ما تحولت محاكمها إلى ساحات انتقام، وإذا ما أصبح التنكيل بالخصوم السياسيين “حقاً ثورياً”، وإذا ما اعتُبر التعذيب عملاً مشروعاً “لردع من تبقى”. فالطريق نحو الحرية لا يُعبد بالدماء فقط، بل بالعقلانية والصبر والاعتراف بأن إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الطغيان.

السؤال الذي يُطل من بين الأشلاء هو: من سيحاسب الثورة على العنف الذي مارسته؟ من سيسائل الفصائل المسلحة التي اختطفت وقتلت وكمّمت أفواه الناشطين والناشطات، أولئك الذين لم يحملوا السلاح واكتفوا بالحلم بوطن حر وديمقراطي؟

الاختطاف، التعذيب، التغييب القسري، الإعدامات الميدانية التي طالت الناشطين لمجرد أنهم طرحوا أسئلة عن السلاح أو عن مصير الثورة. كل هذا حدث باسم الثورة، باسم المظلومية، باسم “الضرورة الثورية”. في إدلب، في الغوطة، في درعا، قُتل ناشطون كانوا أجرأ من أن يصمتوا على استبداد يتسلل من بين صفوف من يُفترض أنهم يقاتلون من أجل الحرية.

من سيقف ليحاسب القادة الذين استغلوا الثورة كغطاء لتأسيس ممالك صغيرة يحكمونها بالسلاح والترهيب؟ من سيُعيد حق الناشطين الذين اختفوا لأنهم رفضوا أن تتحول الثورة إلى منصة للتكفير والهيمنة؟ هل سيتاح يوما لأهالي المختطفين أن يعرفوا مصير أحبائهم الذين باتت صورهم شاهداً على جرائم لم يرتكبها النظام هذه المرة، بل من زعموا أنهم أعداؤه؟

العدالة لا تعني محاكمة الأسد فقط. العدالة تعني أن تواجه الثورة نفسها، أن تنظر في المرآة لتكشف عن الوجوه التي تلوثت بالدماء باسمها، عن القتلة الذين رفعوا شعاراتها ليُسكتوا بها كل صوت حر. إذا لم تحاسب الثورة نفسها، إذا لم تخضع عناصرها وقياداتها للمساءلة العادلة، فإنها ستظل أسيرة ذات الطغيان الذي خرجت لتسقطه. إذا كان القتل باسم الثورة مقبولاً، إذا كانت الفصائل المسلحة فوق المحاسبة، فإن سوريا الجديدة لن تكون سوى نسخة أخرى من سوريا القديمة، بنفس السجون، بنفس المقابر، ولكن برايات مختلفة.

الحرية ليست امتيازاً للمنتصر، بل مسؤولية. والعدالة لا تعني معاقبة المجرمين فقط، بل إنصاف الضحايا. والضحايا ليسوا فقط من سقطوا تحت براميل النظام، بل أيضاً من سقطوا في سجون الفصائل ومن اختفوا على أيدي من رفعوا رايات الثورة. الثورة التي لا تواجه نفسها، التي تخشى الاعتراف بأخطائها، هي ثورة لم تبدأ بعد.

لن نتحرر إن لم نتعلم كيف نضبط غضبنا، كيف نفصل بين الحق في العدالة والرغبة في الانتقام، كيف نصنع وطناً لا يكون نسخة أخرى من السجن الذي خرجنا منه. الثورة الحقيقية تبدأ حين ندرك أن الحرية ليست انتقاماً، وأن العدالة لا تعني تصفية الحسابات، وأن الوطن الذي نحلم به لا يمكن بناؤه إلا على أساس يُعيد للإنسان السوري كرامته الحقيقية، لا يُعطيه فرصة للانتقام، بل فرصة للعيش بحرية تحت سقف قانون يحترم الجميع.

اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يجب أن نطرح السؤال الذي يبدو الأكثر إلحاحاً: هل نحن قادرون على إيقاف آلة العنف قبل أن تبتلعنا جميعاً؟ هل يمكننا أن نمنع الثورة من أن تصبح استبداداً جديداً بأدوات أكثر دموية؟ الإجابة ليست في الخطابات والشعارات، بل في القرارات التي تُتخذ على الأرض، في المحاكم التي تُنشأ، في القوانين التي تُطبق، وفي قدرة السوريين على أن يقولوا: “نحن لا نحتاج إلى انتقام يكرس القسوة… بل إلى عدالة تنقذنا من أن نصبح نسخة مشوهة عما قاومناه”.