ماذا كانت مشكلتكم مع الأسد؟

كل ثورة تُختبَر لا بشعاراتها، وإنما بكيفية ردّها على الفشل. وكل لحظة انتقال سياسي تُعرِّي ما هو أعمق من الخطابات: تكشف نوع الإنسان الذي أنجبته المأساة. الثورة السورية، التي بدأت باسم الكرامة، انتهت اليوم في حضن السلطة ذاتها التي هجرتها ظاهرياً: سلطة الطائفة، وسلطة السلاح، وسلطة المظلومية المصنّعة.

السؤال الذي لا بد من طرحه الآن، وبكل فظاظته الضرورية: ماذا كانت، بالضبط، مشكلتكم مع الأسد؟

هل كانت المشكلة أنه يقتل؟ أنه يُقصي؟ أنه يختصر الوطن في شخصه، والطائفة في نظامه؟ إن كانت الإجابة نعم، فكيف نفهم انحيازكم اليوم إلى من يفعل الشيء نفسه، لكن بلكنة أقرب إليكم، وبرواية أكثر استساغة لهويتكم؟

ما يُرتكب اليوم في سوريا، من مجازر، وتحريض، ومحوٍ ممنهج للهامش، لا يختلف في جوهره عمّا فعله النظام المخلوع. وحدها الجهة المنفذة تغيّرت. أما أدوات الجريمة، فظلت على حالها: إعلام يُجمّل القتل، جمهور يُبرّره، و”نخب” تُنظّر له على أنه ثمن ضروري لـ”الاستقرار”.

المأساة لا تكمن في عودة الأسد، إنما في استنساخه على أيدي من ظنّوا أنهم كانوا معارضين له. نفس خطاب “نزع السلاح الخارج عن الدولة” يُقال اليوم بلسان آخر. نفس حكاية “الفتنة”، نفس وهم “النسيج المجتمعي”، نفس القاموس الأمني، لكن مغمّس هذه المرة بلغة الثورة، وبأصوات من خرجوا على الطغيان ليعيدوا صناعته.

حين يُقدَّم الذبح كحماية، والاغتيال كضبط أمني، ويُطوّب مشايخ السلفية ممثلين للدولة، عندها لا نكون أمام تناقضٍ سياسي، نحن أمام سقوط أخلاقي كامل. الصراع لم يعُد بين استبداد وحرية، وإنما بين استبداد مكشوف واستبداد مموّه. المعضلة أن الجمهور ذاته، الذي كان يُدين قتل الأطفال في دوما، يصمت حين يُذبح أبناء الساحل والسويداء. الصمت ليس تعقلاً، بل انتقاء أخلاقي. والانتقاء، حين يصبح سياسة، يتحوّل إلى خيانة.

كل من يتذرّع بأن ما يحدث “أخطاء فردية”، أو “تجاوزات مؤقتة”، لا يختلف عن الذي برّر جرائم النظام بحجة “الحرب على الإرهاب”. الفارق الوحيد: القاتل أصبح من فريقه. من كان يرفض قصف المدارس، بات يبتسم للهاون حين يسقط فوق مدينة لا تشبهه. من كان يرفع راية المدنية، أصبح يكتب فتاوى سياسية تبرّر التحالف مع المتطرفين، طالما يضمنون له نصراً طائفياً.

حين تُفضح الأقنعة، يتبين أن من يكرر اليوم عبارة “مجموعات منفلتة” و”عناصر غير منضبطة” لتبرير مجازر جديدة، يعلم تماماً كذبة هذا الادعاء. هو يعلم أن من يقود البلاد اليوم – من الجولاني، إلى أبو أحمد حدود، إلى أبو مصعب الشحيل، إلى أبو عائشة، الدغيم وغيرهم – لم يتحولوا بين ليلة وضحاها من قادة تنظيمات متطرفة إلى بُناة دولة. لم يتغير منطقهم، انتقل فقط من المعارضة إلى السلطة. إنهم لا يريدون دولة. الدولة مشروع يتطلّب التنازل، والمساواة، واحترام الاختلاف. أما هؤلاء، فلا يريدون سوى سلطة، تُدار من جهتهم، ويُعاد تعريف الوطنية على صورتهم.

الأسوأ من الفاعلين، هم الصامتون. أولئك الذين يعرفون الحقيقة ولا يقولونها. الذين يرون الذبح ويحسبونه لغواً سياسياً. الذين ينادون بالاعتدال، لكنهم يطلبون من الضحية أن تُجمّل موتها كي لا تُحرج أحداً. الذين يبرّرون التحالف مع الجولاني بأنه صار معتدلاً، ويتناسون أن الأسد أيضاً كان يلبس ربطة عنق.

أن تقول “دعونا نمنحهم فرصة”، وأنت ترى المجازر، هو ما فعله من قال قبلك: “دعونا لا نحكم على الأسد مبكراً”. أن تطالب الدروز بتسليم سلاحهم، ولا تطالب الفصائل التكفيرية بنزع خطابها، هو استنساخ دقيق لمعادلة: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

العيب ليس فقط في السلطة، العيب في البنية التي تنتج جمهوراً يقبل بها. في المثقفين الذين يخافون من تسمية القاتل لأنه صار الآن جارهم السياسي. في النخب التي تتذاكى كي تبقى قريبة من مركز القوة. في السوري الذي نجا من استبداد الأسد، فقط ليعيش في ظل صورة مطابقة له، بلا لحية أو بعباءة، لا فرق.

ما كانت مشكلتكم مع الأسد؟ أنه سفّاح؟ أن نظامه طائفي؟ أن آلته تقتل باسم الوطن؟ إن كنتم تقبلون اليوم بالشيء ذاته، فأنتم لم تكونوا يوماً ثواراً، فقط كنتم تنتظرون دوركم في قيادة المقصلة.

سوريا التي تُبنى فوق هذا الصمت، ستسقط من أول سؤال حقيقي. أما من كان يحلم بوطن لا يذبح فيه أحد، لا يسكت اليوم، لا يساير، لا يبرر، ولا يتذاكى. ومن ينادي بالحرية ليس فقط من يرفعها شعاراً على مواقع التواصل الاجتماعي، هو من يجعلها ممارسة يومية تبدأ بالرفض المطلق للقتل، أياً كانت هوية القاتل، وأياً كانت هوية القتيل.

المسألة إذاً ليست نظاماً سابقاً أو لاحقاً. المسألة في هذه الثقافة التي تتغذى على الدم وتبرره، في مجتمع اعتاد أن يصفق لمن يرفع رايته، حتى لو كانت راية فوق جثث أبناء وطنه.