اللايقين كـ “نظام حكم”.. سوريا في زمن الغموض

هل يمكن لسلطة ما أن تعتمد الغموض منهجاً ثابتاً لإدارة بلدٍ خرج من أطول الحروب وأعقدها؟ وهل فعلاً لا تعرف النخبة الحاكمة اليوم في سوريا إلى أين تسير، أم أن ما يبدو ارتجالاً هو شكل جديد من “الاستقرار المصطنع”؟

في قلب هذه الأسئلة، ينبثق مفهوم اللايقين كسياسة، بوصفه أداة حكم مدروسة، تقوم على تعطيل المعنى وتشتيت الأفق وتفتيت التوقعات، في مجتمع لا يزال هشّاً ومنهكاً، ويتلقى كل تغيير بوصفه تهديداً.

تقليدياً، يُفهم اللايقين في العلوم السياسية كأحد أعداء الحكم الرشيد. فالدول الناجحة، بحسب النظريات المؤسساتية، هي التي تملك أدوات تقليل الغموض؛ من البيروقراطية الرصينة، إلى التخطيط متوسط الأجل، إلى وضوح المرجعية السياسية والدستورية. غير أن الحالة السورية الحالية، بعد سقوط نظام الأسد وصعود سلطة انتقالية ذات مرجعية دينية–عسكرية، أفرزت مشهداً لا يندرج ضمن هذا القالب.

لا توجد خريطة طريق رسمية. لا دستور دائم. لا هيكل سياسي متماسك. كل ما هو قائم اليوم هو مزيج من التصريحات المتضاربة، التحالفات الرمزية، ومحاولات السيطرة الإدارية التي تتبدل تبعاً للظرف والموقع.

يمكن فهم هذا الغموض بوصفه أداة حكم، فمن خلال الإبقاء على الحالة الانتقالية مفتوحة، دون تحديد نقاط ارتكاز دستورية أو زمنية، تُعطى للسلطة حرية غير محدودة في إدارة الوقت والقرار والمجتمع دون الحاجة لتقديم التزامات أو الخضوع للمحاسبة. حين لا يوجد جدول زمني واضح، يصبح بالإمكان الاستمرار في الحكم إلى ما لا نهاية، تحت شعار “المرحلة المؤقتة”.

بذلك، يتحوّل اللايقين إلى آلية لتفكيك المساءلة، فكيف نحاسب سلطة لا تقدّم تعهدات واضحة، وكيف نقيّم أداءها إذا كانت خارطة الطريق غائبة عمداً، وما الجدوى من مراقبة المسار إذا لم يُرسم له شكل؟.

إن غياب الوضوح يُربك النخب السياسية والمدنية، ويفتّت أي إمكانية لبناء توافق جمعي.

في هذا الإطار، يُدار اللايقين ويُنظّم بوصفه أسلوباً فعالاً للهيمنة. حين يكون المستقبل ضبابياً، يسهل على السلطة احتكار الحاضر، وعندما تغيب المؤشرات الزمنية والسياسية، تتضاءل المطالب الشعبية بالتغيير، ويصبح أكثر ما يُطلب من الناس هو البقاء، لا الكرامة أو العدالة أو الحرية. إنها إدارة الخوف من البديل، لا من الحاكم، حيث يغدو الاستقرار المزيف –حتى في صيغته الدنيا– أكثر جذباً من مواجهة المجهول.

تبدو السلطة الانتقالية وكأنها تطبّق مبدأ اللايقين كمفهوم حاكم، فهي لا تقدم مشروعاً واضحاً، ولا تسعى إلى بناء بنية سياسية متماسكة، بل تفضل إبقاء المشهد سيّالاً، والعقود مؤجلة، واللغة محايدة إلى حد التلاشي. بهذا، تضمن تأجيل أي مواجهة حقيقية مع أسئلة التمثيل، والشرعية، والمحاسبة، والتعدد، والدستور، والسيادة.

في هذا السياق، لا يمكن فهم “المرحلة الانتقالية” بوصفها مرحلة مؤقتة فحسب، وإنما أداة حكم، جرى ترسيخها عن قصد، بحيث تستمر باستمرار غموضها. الخطورة هنا تكمن في احتمال أن تكون اللاخريطة هي الخطة، وأن يكون ما يُفترض أن يكون مؤقتاً قد تحول إلى نظام دائم، قائم على التذبذب والغموض.

ينتج عن ذلك كله فراغ معنوي خطير. فحين يفقد المواطن قدرته على تخيّل المستقبل، يفقد تدريجياً القدرة على الانتماء إلى مشروع وطني، فتغيب اللغة المشتركة، وتتآكل فكرة العقد الاجتماعي، ويتحول التاريخ إلى سلسلة من الأحداث المنفصلة التي لا يربطها منطق أو غاية. لا يعرف المواطن في سوريا اليوم ما هي الدولة، ولا ما تعنيه المواطنة، ولا من هو صاحب القرار الحقيقي، ولا متى يمكن له أن يطالب بحقه. يعيش في مكان ما بين الدولة واللا دولة، بين السلطة واللادستور، بين الحاضر المؤجل والمستقبل المعطّل.

إذاً، فإن أخطر ما في اللايقين أنه يقتل الأفق، ويشوّش اللغة، ويمنع بناء التصورات الجماعية، وكل ذلك يُنتج مواطناً منزوع التوقع، ضعيف التمثيل، محدود الأمل، مشوّش الانتماء. في المقابل، فإن ما تحتاجه سوريا للخروج من هذا المستنقع، ليس خطة اقتصادية فقط، ولا دستوراً جديداً فحسب، وإنما إعادة الزمن إلى السياسة، وإعادة السياسة إلى المجال العام، بحيث يُعاد فتح السؤال الأكبر؛ إلى أين نحن ذاهبون؟

قد لا تكون السلطة الانتقالية راغبة في الإجابة، لكن لا شيء يمنع النخب الفكرية والمجتمعية من إعادة طرحه، وفرضه، بوصفه مطلباً وجودياً لا يُمكن تجاهله.

مقالات مشابهة