بعد التغيرات الجذرية التي شهدتها سوريا، باتت البلاد تحت إدارة جديدة تحاول أن تقدم نفسها كبديل مختلف عن نظام الأسد، وتسعى إلى إظهار صورة أكثر انفتاحاً ومرونة. لكن في الوقت الذي تؤكد فيه هذه الإدارة على أنها تتجه نحو نموذج حكم أكثر مؤسساتية وبراغماتية، فإن الواقع على الأرض يعكس تناقضات تثير القلق لدى قطاعات واسعة من المجتمع السوري.
إحدى أبرز القضايا التي بدأت تأخذ حيزاً من النقاش العام هي الحملات الدعوية الدينية التي بدأت تظهر بشكل متزايد في شوارع المدن، حتى في الأحياء ذات التنوع الديني. هذه الحملات، التي يقوم بها أفراد متحمسون للفكر السلفي، تعكس فجوة بين الخطاب الرسمي للإدارة الجديدة وسلوك بعض مناصريها على الأرض، مما يثير أسئلة حول مستقبل التعددية الدينية والاجتماعية في سوريا.
لطالما كانت سوريا معروفة بتنوعها الديني والمذهبي، حيث شكلت الصوفية الأشعرية الطابع العام للإسلام في البلاد، وهو ما منح المجتمع طابعاً دينياً وسطياً أقرب إلى التسامح منه إلى الإقصاء. ومع أن الإدارة الجديدة تؤكد أنها لا تسعى إلى فرض رؤية متشددة، إلا أن ظهور مجموعات دينية تقوم بجولات دعوية في الشوارع، وأحيانًا في مناطق ذات تركيبة غير إسلامية، يثير مخاوف لدى العديد من السوريين.
بالنسبة للكثيرين، المسألة ليست في الدعوة الدينية بحد ذاتها، ولكن في طريقة ممارستها وتوقيتها. فظهور سيارات تجوب الأحياء وتدعو الناس علنًا للدخول في الإسلام يعطي انطباعاً بأن هناك محاولة لإعادة تشكيل هوية المجتمع السوري بطرق قد تتجاوز مجرد الإقناع الديني. هذه الممارسات، حتى وإن لم تكن سياسة رسمية للإدارة، تساهم في خلق مخاوف حول مستقبل الحريات الدينية، والهوية الثقافية السورية.
يحاول بعض المدافعين عن هذه التغيرات تبريرها بالقول إن التبشير المسيحي موجود في أوروبا، فلماذا يُنتقد وجود الدعوة الإسلامية في سوريا؟ لكن هذه مقارنة تتجاهل فروقاً أساسية.
في أوروبا، لا يتم دعم التبشير من قبل السلطة السياسية أو فرضه في المجال العام، بل يبقى ضمن إطار الحريات الفردية التي تشمل الجميع. في المقابل، في سوريا الجديدة، هناك تداخل بين السلطة والفكر الديني الذي تتبناه شريحة من مؤيديها، ما يجعل الأمر أقرب إلى سياسة غير معلنة منه إلى مجرد نشاط فردي.
في أوروبا، يستطيع أي شخص رفض التبشير دون أي عواقب اجتماعية أو سياسية، بينما في سوريا، حيث تعيش البلاد مرحلة انتقالية حساسة، هناك مخاوف من أن يصبح الانتماء الديني معياراً ضمنياً للمواطنة أو الولاء للنظام الجديد، حتى إن لم يكن ذلك معلناً رسمياً.
سوريا ليست أرضاً جديدة تحتاج إلى نشر الإسلام فيها، وإنما هي بلد إسلامي تاريخياً، لكن بطابع وسطي بعيد عن النزعات السلفية. لذا، فإن انتشار الدعوة بهذه الطريقة لا يبدو كحركة دينية طبيعية، بقدر ما هو محاولة لإعادة صياغة هوية المجتمع وفق تصورات محددة.
لا شك أن الإدارة الجديدة أمام تحدٍ كبير في الموازنة بين رغبتها في إعادة تشكيل الدولة، وبين الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي ومنع الاستقطاب. وبينما يحاول الرئيس الانتقالي الجديد تقديم نموذج حكم أكثر واقعية وبراغماتية، فإن تصرفات بعض مريديه قد تعطي صورة مختلفة تماماً، بل قد تسهم في إثارة مخاوف داخلية وحتى دولية حول طبيعة النظام الجديد.
لذلك، يحتاج المشهد السوري الجديد إلى ضبط هذه التوجهات، والتأكيد على أن التعددية الدينية والثقافية جزء أساسي من هوية البلاد. فنجاح الإدارة الجديدة لا يُقاس فقط بقدرتها على إدارة الأمن والاقتصاد، بل أيضاً بمدى قدرتها على حماية روح المجتمع السوري المتسامح، ومنع أي ممارسات قد تعيد إنتاج المخاوف القديمة، لكن بوجوه جديدة.
تمر سوريا اليوم بمرحلة دقيقة، حيث يحاول النظام الجديد إعادة تقديم نفسه كلاعب سياسي قابل للتعامل مع الداخل والخارج. لكن التحدي الحقيقي يكمن في التوفيق بين القوى الدافعة داخل المشروع الجديد، والتي قد تحمل رؤى مختلفة لمستقبل البلاد. فهل تستطيع الإدارة الحالية تحقيق هذه الموازنة؟ أم أن بعض الممارسات غير الرسمية قد تفتح الباب أمام استقطاب جديد لا يقل خطورة عن الصراعات السابقة؟
السؤال لا يزال مفتوحاً، لكنه بالتأكيد سيكون محور الجدل في المرحلة القادمة.