في بلاد تموت فيها السياسة وتحيا الطائفة، لا يُحاكم الفعل بمعناه، وإنما بهوية صاحبه. لا أحد يسأل: ماذا حدث؟ السؤال الوحيد: من فعله؟ الوقائع تُدان أو تُبرَّر لا وفقاً لثقلها، وإنما وفقاً لانتماء مرتكبها. في هذا السياق، لا يعود الاحتلال عدواً، فقط يتحول إلى أداة داخلية، تُستخدم لفرز الولاءات، وتوزيع صكوك الخيانة حسب الهوية، لا حسب الجريمة.

زيارة وفد ديني درزي إلى مقام النبي شعيب في الجليل لم تكن حدثاً استثنائياً بقدر ما كانت مرآة مقلقة لحقيقة قائمة. وفد علني، مكشوف، عبر معبراً مراقباً لأداء طقس ديني يسبق النكبة والهزائم والشعارات الكبرى. لم يفاوض عدواً، لم يطلب غطاءً، لم يلوّح براية سياسية. ومع ذلك، سقط عليه الاتهام بالخيانة سقوطاً آلياً، كما لو أن الفعل نفسه، حين لا تحميه رايات الجماعة، يصبح جرماً لا يقبل الغفران.

الجمهور الذي أقام محكمة على عبور الوفد، هو ذاته الذي صمت حين عُبِدت المعابر أمام مقاتلي الجنوب نحو مستشفيات العدو. لم يهتز حين صار التنسيق مع الاحتلال أداة تكتيكية. لم يغضب حين استُدعي قصف المدن السورية كجزء من نزاعات داخلية محلية. بل هو الجمهور الذي يقبل فكرة المصافحة مع الكيان، ما دامت مصاغة بلغة الضرورة، وما دام الثمن مدفوعاً بلون السردية لا بلون الدم.

ما الذي يجعل زيارة إلى مقام ديني، محصورة في طقس ديني، أكثر إثارة للغضب من قصف للمدنيين، أو من احتلال مفتوح لأراض سورية؟ لا يمكن إيجاد الإجابة في السياسة فقط. الإجابة كامنة في أعماق البنية الاجتماعية والسيكولوجية التي أعادت تشكيل مفهوم الخيانة والطهارة على مقياس الانتماء. الخيانة لم تعد خيانة لأنها تمسّ فكرة الوطن، وإنما لأنها تزعج هندسة الهوية، وتأتي من الجهة الخطأ.

السلطة التي سمحت بالزيارة، هي نفسها التي شرعنت التنسيق، وصمتت عن عبور الجرحى. المجتمع أيضاً لم يتبدل: بارك الواقعية حين خدمته، وصفّق للتفاهمات حين احتاجها. الشيء الوحيد الذي تغير هذه المرة كان الجسد العابر: عمامة لا يحميها فائض الطائفية ولا يسعفها خطاب الأكثرية.

وهنا تُصبح المشكلة أكبر وأعقد من مجرد زيارة أو معبر. المشكلة في سيكولوجيا الجماعة التي لم تعد تعرف نفسها إلا من خلال تحديد من هو خارجها. المشكلة أن المجتمع لم يعد يعادي إسرائيل كاحتلال، وإنما أصبح يعاديها فقط عندما لا تخدم سرديته الداخلية. إسرائيل كعدو باتت حاجة سيكولوجية: نكرهها بشروط، ونقبلها بشروط أخرى. تُحتَكر العداوة لها عندما تكون أداةً لإدانة من لا يشبهنا، ونمنح الغفران في اللحظة التي تُبرّر فيها طائفياً أو سياسياً، حتى ولو تطلّب الأمر الترحيب بقصف المدنيين في لبنان وفلسطين، أو حتى في سوريا نفسها، فقط لأن الضحايا ينتمون إلى الطرف الذي نكرهه.

هل كان يمكن للاحتلال أن يستمر، دون أن يتحوّل إلى مرايا داخلية نرى فيها بوضوح هشاشتنا الذاتية؟ هل كان قادراً على البقاء لو لم نكن، في أعماقنا، نحتاجه كأداة للتفرقة، وكآلية لتوزيع شهادات الوطنية على أساس المذهب والطائفة؟

من يجرؤ على مواجهة هذه الحقيقة المرة؟ لا أحد يريد الاعتراف بأن الكراهية تجاه الزائر الدرزي ليست موقفاً سياسياً، هي حقدٌ داخلي متراكم، أقدم من زيارة، وأعمق من طقس ديني، تُستحضَر في كل مرة تهتز فيها سردية الجماعة عن نفسها. الكراهية هنا ليست موجهة ضد إسرائيل، هي كراهية داخلية، مُغلّفة برداء السياسة، لكن جوهرها الحقيقي هو الخوف من الآخر، ومن وجوده في المساحة التي يُعتقد أنها حكرٌ على جماعة واحدة.

من الذي يُقرّر شكل الخيانة؟ من الذي يحوّل الذاكرة إلى محكمة، والانتماء إلى حكم مسبق؟ الاحتلال لا ينتصر فقط حين يحتل أرضاً. الاحتلال ينتصر أكثر عندما تصبح الكراهية بيننا فعلاً انتقائياً، وعندما يتحوّل عبور الحدود إلى جريمة، ليس لأنك عبرته، ولكن لأنك لم تخلع هويتك على بابه، ولم ترتدِ هوية الجماعة التي تحتكر كل شيء: الحق في الوطنية، والحق في الخيانة، وحتى الحق في تحديد من هو العدو.

في هذا المشهد لا أحد بريء، لا السلطة ولا الجمهور الذي صمت حين كان يجب أن يصرخ، وصرخ فقط عندما وجد جسداً لا يشبهه ليعلّق عليه عجزه التاريخي. كلهم مرّوا من عبر المعبر نفسه، كلهم تطبّعوا مع فكرة العدو كأداة داخلية، والفرق الوحيد بينهم هو في العلنيّة، وفي التسمية، وفي القدرة على طمس الأثر بعد العبور. المعبر نفسه لم يكن أبداً المشكلة، المشكلة كانت دائماً في عيون من نظر إليه، ورأى نفسه عارياً أمام حقيقة لم يعد قادراً على الهروب منها: أن الخيانة لم تعد جريمة سياسية. لقد أصبحت امتيازاً يُوزَّع ويُحجب بحسب هوية من يرتكبها، وحسب انتمائه إلى الجماعة التي نصّبت نفسها وطناً بديلاً عن الوطن.

لا أحد بريء، التفاوت فقط في درجة المواربة، في العلنية، في الصياغة. أما المعبر، فجميعهم مرّوا عبره. المختلف فقط: من نظر إليهم من الجهة الأخرى، ورآهم كما هم.