ما شهدناه في الساحل السوري، وما تبعه من مظاهرات طائفية امتدت من دمشق إلى حمص وغيرها، لا يعتبر مجرد فورة عنف عابرة، هو تجلٍ مأساوي لحقيقة مركبة: سوريا ليست فقط ضحية نظام استبدادي، وإنما أسيرة بنية اجتماعية وسياسية تشبعت بالكراهية حتى صارت جزءاً من تكوينها النفسي العميق.

الطائفية في سوريا يمكن تعريفها أنها منظومة مصالح متشابكة، وشبكة امتيازات متداخلة، وبنية تحتية للسلطة امتدت عبر عقود حتى تغلغلت في أدق تفاصيل الحياة اليومية.

نقع في خطأ منهجي فادح حين نحمّل النظام الأسدي وحده مسؤولية هذا الخراب. صحيح أن النظام استثمر في التصدعات الطائفية، غذّاها ووظّفها كأداة للهيمنة، لكنه لم يخترعها من العدم. كانت الطائفية موجودة قبله في بنية المجتمع، في توازنات القوى، في التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، في كل تلك التشققات التي تجاهلها الخطاب الوطني الرسمي لعقود.

حاذق كان حافظ الأسد في قراءة هذه التصدعات، وعرف كيف يستثمرها ليبني سلطته. أما ابنه فقد طور معادلة سياسية مبنية على “الخوف المتبادل”، حيث يشعر كل طرف أن وجوده مرتبط بزوال الطرف الآخر. ما فعله النظام الأسدي كان أكثر تعقيداً وخبثاً من مجرد تقسيم طائفي بسيط؛ لقد أسس منظومة معقدة من المصالح والخوف المتبادل، حيث ربط أمن ووجود كل مكون مجتمعي ببقائه. 

ترسخت هذه المنظومة عبر تحويل الطوائف والمناطق والشرائح المختلفة إلى كيانات متنافسة، يُغذّى كل منها بخطاب تهديد وجودي متخيّل من الآخرين. فالعلويون، مثلاً، أُدخلوا في علاقة اعتمادية مع النظام، ليس فقط عبر الامتيازات، بل عبر سردية وجودية ترى في أي تغيير سياسي تهديداً للبقاء الجماعي. وبالمقابل، صارت المعارضة السياسية تُختزل في بُعد هوياتي، وأصبح الوعي السياسي العام محكوماً بمنطق المظلوميات المتنافسة. هكذا، لم يعد النظام مجرد سلطة سياسية، بل تحول إلى حكَم مزعوم بين تناقضات مجتمعية صنعها بنفسه، وصار كل تغيير محتمل مرتبطاً في الوعي العام بإعادة توزيع قسرية للنفوذ والامتيازات، لا بإصلاح بنيوي للنظام السياسي.

المأساة اليوم هي أن سقوط الأسد لم يسقط هذه المعادلة الطائفية، بل أعاد توزيع أدوارها بوجوه جديدة. فالسلطة الجديدة لم تبنِ مشروعاً وطنياً يتجاوز منطق المظالم الطائفية، واكتفت بوراثة الهيكل القديم وتوزيع النفوذ داخله.

فحين تخرج عائشة دبس، المسؤولة في السلطة الجديدة، لتربط بين مجزرة الكيماوي وما يحدث في الساحل اليوم، فإنها لا تتحدث بلغة الدولة التي تسعى لبناء عقد اجتماعي جديد، بل بلغة الثأر التي تعيد إنتاج خطاب الأسد نفسه بأسماء ورايات مختلفة. هو ذاته منطق “العدالة الانتقامية” الذي يختزل العدالة في إلغاء الآخر، ويرى في كل ضحية جديدة “قصاصاً عادلاً” لضحايا سابقين.

لكن الكارثة الأشد تتمثل في أن الكراهية الطائفية اليوم لم تعد بحاجة إلى محرّض مباشر. لقد نجح النظام في تحويلها إلى سلوك تلقائي، ردة فعل غريزية. فالذين اعتدوا على المعتصمين في ساحة المرجة لم يفعلوا ذلك بناءً على أوامر فوقية، بل لأنهم باتوا مقتنعين بأن الحزن نفسه جريمة إذا صدر عن “الطرف الخطأ”.

هؤلاء هم ضحايا منظومة اجتماعية وسياسية وثقافية حولت الكراهية إلى قيمة، والعنف إلى فضيلة، والانتقام إلى ضرورة وجودية. هم نتاج إعلام لا يعرف سوى خطاب التخوين والتحريض، ومنابر دينية رسخت فكرة أن العنف ضرورة للبقاء، ومنظومة تعليمية حولت الوطن إلى ساحة صراع دائم بين “نحن” و”هم”.

غياب العدالة الانتقالية اليوم هو الكارثة السياسية والأخلاقية التي تهدد بإغراق سوريا في دوامة لا نهائية من العنف. حين تختزل العدالة في الانتقام، وحين يتحول القانون إلى أداة في يد المنتصر، فإن المجتمع يصبح مشروعاً مفتوحاً للثأر الدائم.

السلطة الجديدة، بدلاً من أن تبني مشروعاً للمواطنة والمصالحة، اكتفت بترديد مقولات الأسد نفسها: “خطأ فردي”، “حادث استثنائي”، “عناصر غير منضبطة”… وهي مقولات فقدت مصداقيتها منذ زمن بعيد، ولم تعد سوى غطاء هش لنفس السياسات الممنهجة.

إن سوريا اليوم ليست بحاجة إلى خطب جوفاء عن التسامح، ولا إلى بيانات إنشائية عن الوحدة الوطنية. ما تحتاجه هو مشروع سياسي واضح يعيد تعريف العدالة، يعيد الاعتبار لفكرة المواطنة، ويضع حداً نهائياً لمنطق الانتقام. تحتاج إلى قانون يُجرّم خطاب الكراهية بشكل واضح، يُحاسب كل من يُحرّض على العنف، ويكسر العلاقة المشؤومة بين السلطة والطائفية.

ما تحتاجه أكثر من أي شيء آخر هو مشروع وطني يعيد تعريف فكرة العدالة ذاتها. العدالة ليست الانتقام، وليست تصفية حسابات الماضي، العدالة هي قدرة المجتمع على الاعتراف بأخطائه، على مواجهة ماضيه، على كسر دوامة الثأر قبل أن تبتلع الجميع.

سوريا اليوم تغرق في مستنقع من الدم لا قاع له. وعلى كل من يلوك اليوم تبريرات للمجازر، من يتحدث عن “سياق تاريخي” للمذابح، من يهمس بأنهم “كانوا شبيحة” أو “شماتين”، أن يدرك أنه ليس أقل إجراماً من القاتل نفسه.

فمن يبرر الجريمة يضع السكين في يد القاتل، ومن يصفق للعنف يغسل دم الضحايا عن يد المجرم.

لا يهم اليوم ضد من تُوجّه المذابح – علويين، سنة، مسيحيين، دروز، أكراد – المهم هو أنها مذابح، وأن من يصمت عنها اليوم سيكون غداً وقوداً لمذابح جديدة. تنتقل الكراهية بين الضحايا والجلادين كمرض معدٍ، فمن يقتل باسم طائفته اليوم، ستقتل طائفته غداً باسم طائفة أخرى.

هذه هي معادلة الجحيم السوري: المجرم والضحية يتبادلان الأدوار، ويظل الوطن هو الخاسر الأوحد. لقد جربنا هذا الطريق لثلاثة عشر عاماً، وحصدنا نصف مليون قتيل، وملايين المهجرين، ومدناً مدمرة، وأجيالاً محطمة. وها نحن اليوم، بعد سقوط الطاغية، نفتح المقابر الجماعية من جديد، ونحفر قبوراً جديدة بأيدينا.

فهل من مجنون يظن أن في إضافة جثة جديدة للمقبرة الجماعية خلاصاً؟

سوريا لن تكون وطناً إلا عندما نفهم أن كل قطرة دم تُسفك اليوم، باسم أي طائفة، وتحت أي راية، هي خسارة وطنية وإنسانية مطلقة.

وأن كل خطاب كراهية، مهما كان مصدره، هو طعنة في صميم فكرة الوطن.

وأن كل تشفٍ بموت الآخرين، ولو كانوا بالأمس أعداءً، هو تأسيس لموتنا غداً.

ليس مطلوباً من السوريين اليوم أن يتحابوا فجأة، لكن مطلوب منهم أن يدركوا أن الكراهية لن تبني وطناً، وأن خيارهم الوحيد هو وقف نزيف الدم.

أما من يصرون على العيش في كهف الطائفية المظلم، فليعلموا أنهم ليسوا فقط أعداء لسوريا، بل هم قتلة مستقبلها.