سلامٌ عليك يا ميشيل،
أربعة أعوام مضت منذ أن غادرتنا، ونحن ما زلنا نعيد قراءة كلماتك الأخيرة، كأننا نبحث فيها عن خلاص ضاع منا في منتصف الطريق. نصائحك كانت واضحةً حد الألم، دقيقة حد الوجع، صادقة حد المرارة. ربما كانت مشكلتنا أننا أحببنا الثورة بقدر ما عجزنا عن فهمها؛ عشنا الوهم وتجاهلنا الواقع، فصارت كلماتك نبوءةً أكثر منها وصية.
قلت لنا إن الحرية هي الهدف الوحيد الذي يجب أن نسعى إليه، وها نحن نعيش زمناً صار فيه ذكر “الحرية” مُجرّد جريمة سياسية، أو على الأقل سوء فهم يستوجب التوضيح والاعتذار. تحولت الحرية إلى شعار مفرّغ من محتواه، يُرفع في المؤتمرات، ويُسجن في الواقع اليومي. تبدّل المستبد ولم يتغير الاستبداد، كأن قدرنا ألا نرى سوريا إلا من خلال طاغية، قديماً كان أو جديداً، ببدلة عسكرية أو بلباس مدني أنيق. ما تعلمناه بعدك يا ميشيل، هو أن الطغيان ثقافة تتجدّد، وأن إزالة طاغية لا تعني اقتلاع الطغيان.
حدثتنا عن الوحدة الوطنية، وعن ضرورة تجاوز الهويات الفرعية والأيديولوجيات الضيقة. لكن اليوم لم تعد المشكلة فقط في انقساماتنا السابقة، أصبح لدينا انقسامات جديدة، أعمق وأخطر وأكثر تفتّتاً. تمزق الوطن ألف قطعةٍ، وكل قطعة يديرها زعيم أو أمير حرب، يحكمها وفقاً لأهوائه، ويسمي سلطته “سلطة انتقالية”. بتنا نسأل أنفسنا بأسى: هل كان النظام وحده هو من سلبنا وحدتنا، أم نحن مَن ساهمنا في تدمير كل فرص اللقاء؟
طلبت منا أن نسمع إلى المفكرين وأصحاب الرأي، لكن صوت العقل اليوم محاصرٌ، في المنافي أو على الهامش، أو تحت تهديد من يرى في التفكير خطراً على سلطته الجديدة. أصبحت الثقافة رفاهيةً، والفكر تهمةً، والكلمة الشجاعة جريمةً لا تُغتفر. أهذا ما كنا نسعى إليه؟ أم أننا كنا ثوّاراً لم يدركوا أن الثورة، كي تكون حقيقية، يجب أن تبدأ من دواخلهم أولاً؟
ذكّرتنا بالمرأة السورية، لكنها اليوم تُسحق بين كماشتين: استبداد قديم كبل جسدها، واستبداد جديد صادر صوتها. تُرفع صورتها في المؤتمرات، وتُستبعد من القرار. تُستخدم كدليل على “التقدم”، بينما تُقصى من أبسط حقوقها. لم تعد تُرى كامرأة مواطنة، وإنما كأداة دعائية في يد سلطات لا تؤمن بها ولا بمكانتها. ما كُسب بدمعٍ طويل، يُسلب الآن على مرأى الجميع. سوريا الجديدة خانت نساءها، كما خانت حريتها.
يا ميشيل، أوصيتنا ألا ننسى فلسطين، وألا نفرّق بين حريتها وحريتنا. لكننا لم ننسَ فقط، بل خنّا الوصية. لم تعد فلسطين ميزاناً للعدالة، بل غطاءً للقمع، ومزاداً للمتاجرة. إسرائيل اليوم لا تحتل الأرض الفلسطينية وحدها، بل تلتهم أرضنا السورية شبراً شبراً، تقصفنا متى شاءت، تدمر ما تبقى من جيشٍ لم يُبنَ ليحاربها بل ليقمعنا، ومع ذلك لا تجرؤ السلطة الجديدة حتى على نطق كلمة “احتلال”.
صارت الغارات الإسرائيلية حدثاً عادياً، بلا ردٍ، بلا بيانٍ، بلا حتى إيماءة غضب. في المقابل، حين وقعت مجازر في الساحل، انطلقت جموع السوريين تهتف للانتقام، تهرول نحو الموت بكل ما فيها من كراهية. لم تُحرّكهم صواريخ إسرائيل، بل حرّكتهم طائفة شريكة في دمهم. هذا هو ميزان العدالة الجديد: نغضب من السوري الآخر أكثر مما نغضب من الاحتلال. فلسطين في سوريا الجديدة يا ميشيل، كالحريّة تماماً: تُرفع كشعار، وتُدفن كقضية.
اليوم، بعد أربع سنوات على رحيلك، وبعد أن أسقطنا الأسد ولم نسقط النظام، نكتشف أننا نعيش استبداداً أشد مرارةً لأنه يأتي مغلفاً بوهم الحرية. الاستبداد الجديد يبتسم في وجوهنا، يحدثنا بلغتنا، يعدنا بما نحلم به، لكنه يمارس كل حيل الاستبداد القديم. فهل كان ينقصنا الوعي بأن التغيير الحقيقي يبدأ من تغيير أنفسنا أولاً؟ وأن الثورة الحقيقية هي تلك التي تحدث في أعماقنا قبل أن تحدث في الشوارع؟
لا أكتب إليك اليوم لليأس، يا ميشيل، بل لأقول لك إن رسالتك كانت أصعب مما تصورنا، لأن تحقيقها يحتاج إلى مواجهة حقيقية مع أنفسنا قبل مواجهة أي مستبد. أكتب إليك لأقول إننا لم نفقد الأمل، لكننا فقدنا الوهم. صار واضحاً لنا الآن أن سوريا التي حلمت بها تحتاج إلى جيل جديد لم تلوّثه ثقافة الاستبداد، جيل يدرك أن الوطن ليس ساحةً للثأر، وإنما مساحة للقاء والتفاعل.
سوريا اليوم محطمة، ممزقة، منهكة، لكن هذا الخراب ربما يكون فرصتنا الأخيرة لبناء شيء حقيقي، شيء يشبه تلك الكلمات التي كتبتها على فراش موتك. نحتاج اليوم إلى أن نبدأ من جديد، من نقطة الصفر، من صدق الاعتراف بفشلنا وأخطائنا، ومن الإيمان بأننا لا نستحق الحرية إلا إذا امتلكنا شجاعة الاعتراف بهذه الحقيقة أولاً.
سلامٌ عليك، ميشيل، سلامٌ على ما لم يتحقّق. سلامٌ على الفكرة التي خُنّاها ونحن نرفع رايتها. على الثورة التي دفنّاها تحت رايات جديدة تحمل الاسم وتقتل المعنى. ما يُرعب اليوم ليس أن الطغاة عادوا، لكن أن الناس انتظروهم، وصفقوا لهم، وسمّوهم “أملاً”. ما يُوجع أن الحرية لم تُقتل برصاصة، لقد أُعدمت على يد جماهيرها.
أكتب كي لا نُكمل طقوس الدفن بأيدينا. لن نعدك بشيء، فقط نحاول ألّا نكذب الكذبة ذاتها مجدداً… وألّا نمنح الطغاة الجدد دموعاً ادّخرت للذين ماتوا من أجل أن نكون أحياء. لن نعد أحداً بشيء. نحن أبناء الخسارة نعرف ثمن الأوهام. لكننا نعرف أيضاً أن الكذبة حين تُقال مرتين تصبح عقيدة. لذلك أكتب كي ننجو من القداسة، من العادة، من الغفران السهل، من سرديات الغلبة.
أكتب كي لا نغفر… لا لأنفسنا، ولا للجلاد، ولا للذي قبّل يده باسم الخلاص.