لم يكن سقوط الأسد عبارة عن سقوط نظام استبدادي فقط، وإنما كان انهياراً لمنطق السلطة الذي حكم سوريا لعقود، منطقٌ لم يقم فقط على القمع، بل على استخدام الطائفة كدرع بشري، وابتزازها نفسياً ليصبح بقاؤها مشروطاً ببقائه. اليوم، وبعد ثلاثة أشهر من هروب الأسد، نشهد ذعراً داخل الطائفة التي كانت تحكم، ذعراً يتجلى في خطاب يتأرجح بين الإنكار والتهديد والاستجداء، بين محاولة التفاوض على موقع جديد داخل السلطة، ومحاولة استعادة المظلومية كدرع للحماية، وبين الذهاب أبعد من ذلك: البحث عن وصاية خارجية، حتى لو كانت العدو نفسه.
أي جماعة تعتاد السلطة المطلقة، تعتقد أن وجودها في الحكم هو “الحالة الطبيعية”، وأن خروجها منه ليس انتقالاً سياسياً، بل خطراً وجودياً. الطائفة التي لم تعرف يوماً معنى المحاسبة، والتي تشكلت هويتها السياسية على أساس الامتياز، لا يمكنها تقبل فكرة أنها أصبحت خاضعة لنفس القواعد التي خضع لها بقية السوريين. لكن المشكلة لا تكمن في الانهيار السياسي، بل في الانهيار النفسي المصاحب له، حين تتحول الطائفة إلى كتلة خائفة، ترى في سقوطها نهاية للعالم، لأنها لم تتخيل يوماً أنها يمكن أن تكون جزءاً من مجتمع متساوٍ، لا فوقه ولا خارجه.
هذا ما يفسر التناقض الفاضح الذي نراه اليوم: من كانوا يبررون سحق المدن وقتل السوريين باسم “الحفاظ على الدولة”، أصبحوا اليوم يتحدثون عن حقوق الإنسان، ويتباكون على غياب العدالة، وكأنهم لم يكونوا جزءاً من آلة القتل نفسها. بل والأسوأ، من كانوا يرفعون شعارات “الممانعة”، ويدافعون عن نظام رهن سوريا بالكامل للخارج، يبحثون اليوم عن قوة أجنبية جديدة تضمن لهم “حقوقهم”. الأمس كانوا مع الأسد لأنه قدم لهم امتياز الحماية، واليوم يبحثون عن إسرائيل وغيرها لأنها قد تقدم لهم الامتياز نفسه. لا شيء تغير، سوى السيد الذي يطلبون منه الحماية.
حين سقط الأسد، لم يكن السؤال داخل الطائفة: “كيف سنبني دولة نكون جزءاً منها؟” بل “من سيحمينا الآن؟”. هذا لا يمكن اعتباره سؤالاً سياسياً، بل سؤال ناجم عن فشل تاريخي في رؤية الذات خارج السلطة. لهذا لم يتوقف البحث عن بدائل، ولهذا نرى الخطاب يتشكل اليوم حول سيناريوهات تتراوح بين المطالبة بضمانات دولية، إلى التلميح بالانفصال، إلى استجداء التدخل الخارجي. والمفارقة أن من كانوا يروجون لخطاب “الطائفة المستهدفة”، هم أنفسهم من جعلوا هذه الطائفة أسيرة هذا المنطق، بحيث لم يعد لها أي قدرة على رؤية نفسها خارج موقع القلق الدائم، إما حاكمة أو ضحية، لا مواطنة، لا شراكة، لا دور في بناء سوريا جديدة.
لكن الأخطر من ذلك أن هذا الخطاب لا يزال يجد من يروّج له، ليس فقط داخل الطائفة، بل بين السوريين أنفسهم، الذين ما زالوا أسرى للمنطق الطائفي، حتى حين يدّعون أنهم يحاربونه.
في كل أزمة كبرى، هناك فرصة لإعادة تعريف السياسة على أسس جديدة، لكن سوريا تبدو عالقة في دوامة من الإقصاء المتبادل. السلطة الجديدة، بدل أن تؤسس لعقد اجتماعي جديد، تعيد إنتاج اللون الواحد. هذا ليس بناءً لدولة، بل إعادة تدوير للأزمة، بشكلٍ يجعل مخاوف الأقليات أكثر منطقية، حتى حين تكون هذه المخاوف مختلقة أو مبالغاً فيها.
ما تريده السويداء، وما تريده كل منطقة لم تنبطح للسلطة الجديدة، ليس امتيازات طائفية، بل دولة حقيقية. وهذا ما يرفضه المتطرفون الجدد الذين صعدوا مع انهيار الأسد، أولئك الذين لا يرون في السلطة سوى فرصة جديدة لاحتكار الحكم، تماماً كما فعل من سبقهم. لهذا، حين رفض الدروز تسليم مفاصل الحياة في السويداء دون ضمانات حقيقية لدولة مدنية، لم يكن ذلك رفضاً للاندماج، بل رفضاً للذوبان في مشروع لا يملك هوية واضحة سوى التمسك بالحكم مهما كان الثمن.
لكن بدل الاعتراف بذلك، خرجت أبواق التخوين نفسها التي لم تعرف يوماً كيف تصنع دولة، تتهم الدروز بالانفصال، لأنهم لم يقبلوا الانصياع. كيف يمكن أن يكون انفصالاً، حين يكون الطلب الوحيد هو دستور وطني شامل؟ كيف يمكن أن يكون خيانة، حين يكون الشرط الوحيد هو وجود قانون يساوي بين الجميع؟ المشكلة ليست في السويداء، المشكلة في السلطة التي لم تقدم بعد أي إجابة سوى الاستقواء بالقوة، كما فعل الأسد تماماً.
ما يطلبه البعض اليوم هو العفو المجاني، ليس المصالحة حتى. يريدون تجاوز الماضي دون الاعتراف به، يريدون أن يتحدثوا عن الوحدة الوطنية دون أن يواجهوا الجرائم التي ارتكبت باسمها. يريدون أن ينتقلوا من امتياز السلطة إلى امتياز العفو، وكأن العدالة مجرد ورقة أخرى في لعبة السياسة.
لكن سوريا الجديدة لن تكون نسخة محسنة من الماضي، ولن تكون مجرد عملية استبدال لأسماء الحاكمين. العدالة الانتقالية ليست خياراً تجميلياً، ولا يمكن بناء دولة على نسيان ممنهج للمذابح والتهجير والاعتقال والقصف. لهذا، فإن أي دستور جديد لا يجرّم الطائفية ويحاسب على خطاب الكراهية، سيكون مجرد وثيقة مؤقتة، ستنهار عند أول اختبار حقيقي.
هذه ليست لحظة تسوية، هذه لحظة حساب. سوريا التي ستولد اليوم، لن تكون سوريا الأسد، ولن تكون سوريا الطائفية، ولن تكون سوريا اللون الواحد. إما أن تكون دولة قانون، أو أن تبقى كما هي: ساحة حرب مؤجلة، تتغير فيها الوجوه، ويبقى القتل نفسه.
أما من يعتقدون أنهم قادرون على المساومة، على تأجيل المواجهة، على إعادة إنتاج الحصانات القديمة بلبوس جديد، فعليهم أن يدركوا أن التاريخ لا يمنح فرصاً ثانية. الأسد انتهى، ومنطق الأسد يجب أن ينتهي معه، وإلا فإن سوريا لن تكون سوى نسخة جديدة من الجحيم الذي اعتقد الجميع أنهم غادروه.