متى يصبح العنف صادماً؟ بعد أن يتحوّل إلى موسيقى تصويرية يومية؟ بعد أن يصبح مشهد الجلد في الشوارع عادياً كإشارة المرور، أو كإشعارات الهاتف؟ متى يدرك الناس أن الضحية ليست رقماً، ليست “عبرة لمن يعتبر”، ليست تفصيلاً هامشياً في نظام العقوبات، بل إنسان له اسم، له قصة، له حياة كان يمكن أن تكون حياتهم؟ متى يعود القمع إلى موضعه الحقيقي كجريمة، لا كطقس اجتماعي؟ كعار، لا كضرورة أخلاقية؟ متى يتوقف الناس عن تبريره، عن تكراره، عن الدفاع عنه وكأنه دين جديد؟
القمع لم يكن يوماً بحاجة إلى مبررات، فقط إلى جمهور مستعد للابتلاع. لم يكن بحاجة إلى أن يشرح نفسه، لأنه كان دائماً يفهم غريزة القطيع، يفهم كيف يتم تصنيع الخوف ثم بيعه للناس كحماية. القمع لا يخلق نفسه، بل يحتاج إلى مؤمنين به، إلى أناس يبررونه، يقدّسونه، يحوّلونه إلى أسلوب حياة. لم يكن نظاماً طارئاً، وإنما ثقافة راسخة، تنمو في المدارس، في البيوت، في الشوارع، في العقول التي لا تعرف كيف تعيش بلا سلطة تضرب، بلا يد تمسك العصا، بلا عين تراقب وتنتظر الانحراف الأول لتبرر السوط.
في سوريا، كان التعذيب جزءاً من النظام، من الحياة اليومية، لكنه كان على الأقل يختبئ خلف الأقبية، خلف التقارير، خلف طقوس المحاكم الشكلية. اليوم، لم يعد هناك حاجة لهذه الديكورات. أصبح القمع فورياً، مباشراً، مكشوفاً، بلا مواربة، بلا تحضيرات مسرحية. صار طقساً علنياً، استعراضاً للعنف أمام الكاميرات، تعليماً مجانياً للجميع عن حدود المسموح والممنوع. لم يعد النظام بحاجة إلى محاكم، ولا إلى محققين، صار يكفي أن يجلد أحدهم في الشارع، أن يسقط على الأرض، أن ترتجف أطرافه أمام العدسة، حتى يفهم الجميع الدرس دون الحاجة إلى أي شرح إضافي.
في الأيام الأخيرة، رأيناهم يوقفون الشباب، يضربونهم، يشتمونهم، يحلقون رؤوسهم كعلامة إذلال، يلتقطون لهم فيديوهات كغنائم انتصار، ثم يطلقون سراحهم وكأن العقوبة قد اكتملت، وكأن الإهانة بحد ذاتها أصبحت الحكم والتنفيذ معاً. لماذا؟ لأن القمع لم يعد بحاجة إلى سبب، صار قائماً بذاته، مجرد إجراء يومي لتنظيم المجتمع، مثل جمع القمامة، مثل تنظيم السير، مثل تشغيل الإذاعة في الصباح. لكن الأسوأ، هو أن يتحوّل القمع إلى متعة، إلى فرجة، إلى جزء من الترفيه العام. لم يتوقف الأمر عند الجلد، بل امتد ليشمل العابرين جنسياً، ليس فقط بالضرب، بل بنشر صورهم وكأن الفضيحة جزء من العقوبة، وكأن المجتمع لم يكتفِ بسحقهم، بل يريد أن يوزّع لحمهم المهترئ بين صفحات الفيسبوك، بين التعليقات الساخرة، بين القهقهات في المقاهي. لأن هذا المجتمع لا يريد فقط أن يرى الضحية تنهار، بل يريد أن يحتفظ بالصورة، أن يعيد مشاركتها، أن يجعلها مادة يومية للحديث، وكأن الجريمة لا تكتمل إلا إذا صارت ذكرى جماعية، لا تُنسى، لا تُمحى.
الأخطر ليس فعل الجلد نفسه، وإنما التصفيق الذي رافقه. الجمهور الذي لم يعد يرى في العنف مشكلة، بل ضرورة. الجمهور الذي لم يعد يتساءل: لماذا يحدث هذا؟ بل صار يسأل: هل كان العقاب كافياً؟ هل كان الجلد مؤلماً بما فيه الكفاية؟ فجأة، صار التنكيل “تربية”، والإهانة “إصلاحاً”، والضرب “حماية للأخلاق”. فجأة، صار كل هذا مقبولاً، مفهوماً، وضرورياً لاستمرار المجتمع في طريقه الصحيح.
اليوم، يصفقون لضرب المتحرش، غداً سيصفقون لجلد “المتبرجة”، بعد غد سيصفقون لرجم الصحفيين، وبعد أسبوع سيطالبون بإعدام “المثليين” و”الملحدين” و”الخارجين عن العرف”. لن يتوقفوا، لأن الحاجة إلى ضحية جديدة ستظل قائمة، لأن العنف يحتاج دائماً إلى مبرر جديد، إلى فئة جديدة يمكن تعليقها على المشانق الأخلاقية. كل مرة، سيجدون اسماً جديداً، جريمة جديدة، حتى يأتي اليوم الذي يصبح فيه كل شخص مشروع متهم، وعندها، لن يكون هناك من بقي ليصفق.
هذه ليست “عدالة”، هذه ليست “أخلاقاً”، هذه ليست “حماية للمجتمع”، هذه غوغاء تبحث عن فريسة، هذه وحشية جماعية مقنّعة، هذا عقد غير مكتوب بين السلطة والجمهور، حيث يبيع الأول العنف، ويشتري الثاني الوهم بأنه يعيش في نظام أخلاقي متماسك. هذه العلاقة لا تدوم إلا طالما وجد القطيع ضحية جديدة. المشكلة أن الأهداف لا تدوم، وأن الحلقة تضيق، حتى يصل الدور إلى الذين صفقوا بالأمس، إلى الذين برروا، إلى الذين اعتقدوا أنهم في مأمن لأن العصا لم تلمسهم بعد.
العنف لا يعرف الحياد، لا يقف عند حد، لا يتوقف عند فئة واحدة. الأهداف لا تدوم، الضحايا ينفدون، والحلقة تضيق، حتى لا يبقى فيها إلا الذين اعتقدوا أنهم بأمان. وعندها، لن يكون هناك أحد ليهتف لهم، لن يكون هناك من يتعاطف، لن يكون هناك حتى جمهور ليصفق، لأن الجميع سيكون إما في الزنزانة، أو واقفاً في الصف، ينتظر دوره على “بساط الريح”.