لم يكن بيان “الحوار الوطني” أكثر من رسالة دبلوماسية مصاغة بعناية، تستهدف الخارج أكثر مما تخاطب الداخل. لم يكن إعلاناً عن عقد اجتماعي جديد، هو محاولة لرفع الحرج عن النظام الجديد أمام المجتمع الدولي. الحديث عن الحريات والمواطنة والمجتمع المدني جاء كجزء من تسويق سياسي، وكأن الدولة مشروع يحتاج إلى شهادة حسن سلوك دولية كي يبدأ العمل. لكن هل يكفي تمرين دبلوماسي لتأسيس دولة؟
البيان قال كل شيء دون أن يقول شيئاً. لم يذكر العلمانية لكنه تحدث عن “المواطنة المتساوية”. لم يذكر الديمقراطية لكنه تحدث عن “الشراكة السياسية”. لم يحسم شكل الحكم لكنه أكد على “وحدة الأراضي السورية”. نص مرن، مفتوح على كل التأويلات، يطمئن الجميع لكنه لا يُلزم أحداً بشيء. لكن السياسة لا تُدار بهذه الطريقة. لا يمكن بناء نظام سياسي على تجنب الصدام، أو ترك الأسئلة الكبرى دون إجابة، وكأن تأجيل الأزمات سيجعلها تختفي.
على مستوى الشارع، لم يُحدث البيان فرقاً. لم يتطرق إلى القضايا التي تعني السوريين فعلاً: هل هناك خطة اقتصادية واضحة؟ هل سيتم توزيع الموارد بعدالة، أم ستُعاد هيكلة السلطة المالية لصالح النخب ذاتها؟ هل هناك رؤية سياسية لحل النزاعات الداخلية، أم أن إدارة الأزمة ستظل النهج المتبع؟ لم يكن مطلوباً من البيان أن يقدم حلولاً فورية، لكنه لم يُشر حتى إلى القضايا الجوهرية التي تحتاج إلى حلول.
الرهان على رفع العقوبات باعتباره مفتاح الحل هو اختزال مخلٌّ للأزمة السورية. صحيح أن العقوبات أداة ضغط، وأن تجاوزها يمنح النظام الجديد مساحة للحركة، لكن رفع العقوبات وحده لا يبني دولة، ولا يرسّخ سلطة، ولا يحقق استقراراً. ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ هل هناك تصور لإصلاح مؤسسات الدولة؟ هل هناك خطة واضحة لاستعادة الاستقرار الأمني دون إعادة إنتاج عسكرة الحياة السياسية؟ أم أن رفع العقوبات مجرد استراحة قصيرة قبل مواجهة التحديات الحقيقية؟
كان البيان الختامي تمريناً دبلوماسياً ناجحاً، لكنه لا يصلح أن يكون قاعدة لدستور. الدستور ليس وثيقة تفاوضية تُصاغ بلغة مرنة لإرضاء الجميع، هو عقد اجتماعي يحدد طبيعة الحكم والعلاقة بين السلطة والمجتمع. وحين تبدأ مفاوضات الدستور، لن يكون ممكناً التهرب من الأسئلة الحاسمة: هل ستكون سوريا دولة مدنية أم أن الدين سيظل جزءاً من بنيتها القانونية؟ هل ستُحكم البلاد بمركزية صارمة، أم أن الحكم المحلي الموسع سيكون القاعدة؟ هل ستظل الفصائل المسلحة جزءاً من المعادلة، أم أن الدولة ستحتكر العنف المنظم كما يفترض أن يكون؟ هل ستُحل عقدة الإدارة الذاتية في شرق الفرات، أم أنها ستظل معضلة مؤجلة بانتظار انفجار آخر؟ ماذا سيحدث في الجنوب؟
هذه ليست قضايا تقنية، إنما هي جوهر أي نظام سياسي. إذا لم تُحسم الآن، فستُحسم لاحقاً، لكن ليس عبر التفاوض، بل بالصراع. النظام الجديد، إذا أراد أن يكون نظاماً حقيقياً، لا يمكنه أن يكتفي بصياغة البيانات، بل عليه أن يقرر: هل هو مشروع دولة، أم مجرد سلطة تحاول تحسين شروط بقائها؟
يقال إن المؤتمر عُقد بسرعة، وإن البيان كان جاهزاً قبل الجلسة، وإن الأمور سارت بسلاسة. لكن هل هذه سرعة ضرورية، أم مجرد استعجال لتلميع المشهد؟ الدول لا تُبنى بهذه الطريقة، والدساتير لا تُكتب في جلسات مغلقة، والسياسة لا تُدار كحملة علاقات عامة. السرعة ليست إنجازاً، بل دليلاً على التسرع. عندما يتم تقديم مشروع دولة على عجل، دون نقاش مجتمعي واسع، دون مشاركة حقيقية من القوى المؤثرة، فالمحصلة لن تكون نظاماً سياسياً مستقراً، بل مجرد سلطة مؤقتة، تملأ الفراغ حتى تأتي لحظة الانفجار القادم.
المؤتمر كان خطوة تكتيكية لإعادة التموضع، لكنه لم يؤسس لعقد سياسي جديد. البيان حمل عبارات مطمئنة، لكنه تهرب من أي حسم جوهري. الحوار جرى، لكن القضايا التي ستحدد مصير سوريا لا تزال خارج النقاش الحقيقي. رفع العقوبات قد يكون مكسباً آنياً، لكنه يظل بلا معنى ما لم يكن جزءاً من رؤية سياسية واضحة. ما حدث لم يكن إعلان ولادة دولة، بل كان محاولة لتلميع سلطة تبحث عن تثبيت وجودها، دون أن تحدد بعد كيف ستحكم، أو ماذا تريد أن تكون.
