تعيش سوريا اليوم واحدة من أكثر لحظاتها حساسية وتعقيدًا منذ اندلاع الثورة عام 2011. حيث تدار المرحلة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع الذي أمسك بزمام الأمور في ظل ظروف سياسية وأمنية واقتصادية غاية في الصعوبة. وبينما يترقب السوريون والعالم كيف ستُدار هذه المرحلة، تبدو هناك تحديات جوهرية لا يمكن تجاهلها، وفي مقدمتها الأمن، الاقتصاد، العدالة الانتقالية، إعادة بناء الدولة، والحريات السياسية والفردية.
التحدي الأمني: ضبط الأمن دون الوقوع في الاستبداد
لا يمكن الحديث عن إعادة بناء سوريا دون تحقيق الأمن. الفراغ الذي خلفه النظام السابق، رغم أنه لم يؤدِ إلى فوضى شاملة، لا يزال يحمل مخاطر كبيرة مثل الانتقام، الثأر، وانفلات السلاح. لذلك، فإن الإدارة الجديدة مطالبة بإرساء قواعد أمنية واضحة، تمنع الفوضى دون أن تتحول إلى جهاز قمعي جديد. هذه معادلة صعبة، لأن أي محاولة لضبط الأوضاع بالقوة المفرطة ستعيد إلى الأذهان ممارسات النظام السابق، بينما التهاون سيؤدي إلى تفكك الدولة الناشئة.
التحدي الاقتصادي: تأمين أساسيات الحياة قبل أي شيء
يبدو أن الشارع السوري أكثر اهتمامًا اليوم بقوت يومه من أي مسألة سياسية. توفير الكهرباء، الخبز، الرواتب، والطعام هو أولوية مطلقة. الإدارة الانتقالية تعي هذا جيدًا وتسعى، عبر العلاقات الدولية والاعترافات، إلى الحصول على الدعم المالي والاقتصادي الضروري لإعادة تشغيل المرافق الأساسية لكن لم يلمس المواطنون أي نتائج على أرض الواقع لا بل تراجع وضع الكثير من الخدمات وتراجعت القدرة الشرائية رغم توافر المزيد من السلع في الأسواق. إن أي خطأ في إدارة الموارد أو تأخر في إيجاد حلول سريعة قد يضعف الثقة الشعبية في هذه الإدارة، ما قد يهدد الاستقرار السياسي نفسه.
العدالة الانتقالية: كيف نوازن بين المحاسبة والاستقرار؟
واحدة من أخطر التحديات تتمثل في معالجة إرث الجرائم والانتهاكات التي ارتكبت على مدار السنوات الماضية. هناك ضحايا ينتظرون العدالة، وهناك جناة يجب محاسبتهم. لكن في الوقت نفسه، فإن فتح ملفات المحاسبة بلا تنظيم قد يهدد استقرار البلاد ويؤدي إلى انتقامات فردية أو فوضى قضائية. كما أن التسويات مع وجوه إجرامية معروفة من النظام السابق تتسبب بغليان الشارع السوري الذي يرفض التفريط بحقه في المحاسبة لقتلة أبنائهم وأهاليهم.
الحل الأمثل هنا هو تأسيس آليات واضحة للعدالة الانتقالية تشمل محاكم خاصة للجرائم الكبرى، آليات للتعويض، ومسارات للمصالحة، مع ضمانات واضحة بعدم الإفلات من العقاب.
إعادة بناء الدولة: هل نكرر أخطاء الماضي؟
من أبرز المشكلات التي عانى منها السوريون لعقود هي شخصنة الدولة وربطها بالحاكم، وهو ما جعل انهيار النظام يعني انهيار مؤسسات الدولة نفسها. من الضروري اليوم بناء دولة قائمة على المؤسسات، وليس على الولاءات الشخصية. يبدو أن أحمد الشرع يدرك ذلك من جهة، إذ يرفض تحويله إلى “رمز مقدس”، لكنه يعتمد على المقربين منه فقط لتسلم المناصب وإدارة شؤون البلاد، مكلفاً أخاً له بمنصب وزير وأخاً آخر مقرب من أردوغان ليدير العلاقات مع تركيا.
إن نجاحه في هذا المسار يعتمد على تشكيل حكومة تعددية ذات كفاءات حقيقية، وليس مجرد إعادة تدوير لرموز النظام السابق أو استبداد جديد بأسماء مختلفة ذات ولاء مطلق للحاكم الجديد.
الحريات: هل تكون هذه المرة مختلفة؟
الثورة السورية بدأت تحت شعار “حرية للأبد”، لكن مخاوف كثيرة تدور حول ما إذا كانت الإدارة الانتقالية ستلتزم فعلاً بالحريات السياسية والفردية، أم أن الأمر سيبقى مجرد وعود تنتهي بمجرد تثبيت السلطة.
المشكلة تكمن في أن الحريات القائمة حاليًا ليست ناتجة عن التزام ديمقراطي، بل عن ضعف الدولة.
و مع بروز ممارسات وُصفت بالفردية تعيد إلى الأذهان بعض ممارسات النظام السابق والذي واجهه السوريون على مدى عقود، لا بد من السؤال: عندما تصبح الدولة قوية، هل ستظل هذه الحريات محفوظة؟ أم أننا سنعود إلى مربع القمع من جديد؟
الانتقال الديمقراطي: أي نموذج تريد سوريا؟
لا تزال الرؤية السياسية المستقبلية غامضة إلى حد كبير. هل تتجه سوريا نحو دولة ديمقراطية تعددية؟ أم أنها ستكتفي بنموذج انتخابي شكلي مثل كثير من الدول العربية؟
حتى تكون الانتخابات ذات معنى، لا بد من وجود دستور واضح، قانون أحزاب، وضمانات حقيقية للتعددية. لكن من الواضح أن هناك ترددًا داخل الإدارة الانتقالية حول المسار الذي ستسلكه، خاصة في ظل الضغوط الإقليمية والدولية التي قد تؤثر في طبيعة الحكم القادم.
ختامًا: هل تنجح التجربة؟
سوريا اليوم أمام فرصة تاريخية للخروج من دوامة الديكتاتورية والفوضى، لكنها في الوقت ذاته تواجه تحديات كبرى قد تعيد إنتاج الفشل إن لم يتم التعامل معها بحكمة. الإدارة الانتقالية أمام اختبار حقيقي؛ إما أن تبني نموذجًا ديمقراطيًا جديدًا يعيد للسوريين كرامتهم، أو تسقط في فخ إعادة إنتاج استبداد آخر، بوجوه مختلفة. الأمل موجود، لكن الطريق لا يزال محفوفًا بالمخاطر.